{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } أي : يدخل الليل على النهار ، فيغشيهم الليل بظلامه ، فيسكنون ويهدأون ، ثم يدخل النهار على الليل ، فيزول ما على الأرض من الظلام ، ويضيء الكون ، فيتحرك العباد ، ويقومون إلى مصالحهم ومعايشهم ، ولا يزال الله يكور الليل على النهار ، والنهار على الليل ، ويداول بينهما ، في الزيادة والنقص ، والطول والقصر ، حتى تقوم بذلك الفصول ، وتستقيم الأزمنة ، ويحصل من المصالح ما يحصل بذلك ، فتبارك الله رب العالمين ، وتعالى الكريم الجواد ، الذي أنعم على عباده بالنعم الظاهرة والباطنة ، { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما يكون في صدور العالمين ، فيوفق من يعلم أنه أهل لذلك ، ويخذل من يعلم أنه لا يصلح لهدايته{[979]} .
{ يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل } أى : يدخل - سبحانه - طائفة من الليل فى النهار ، فيقصر الليل ويزيد النهار ويدخل طائفة من النهار فى الليل ، فيقصر النهار ، ويزيد الليل ، ثم يسيران على هذا النظام البديع ، دون أن يسبق أحدهما الآخر .
{ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } و " ذات " هنا مؤنث ذو بمعنى صاحب .
أى : وهو - سبحانه - عليم علما تاما بمكنونات الصدور ، وما تضمره من خير أو شر وما يتردد فيها من خواطر وأفكار .
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة من أول السورة إلى هنا ، يراها قد اشتملت على بضع عشرة صفة ، من صفات الله عز وجل - الدالة على وجوب إخلاص العبادة له ، والنقياد لأمره ونهيه .
وينتهي هذا المطلع بحركة لطيفة من حركات القدرة في مجال الكون ، وفي أطواء الضمير :
( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل . وهو عليم بذات الصدور ) . . .
ودخول الليل في النهار ، ودخول النهار في الليل ، حركة دائبة ، وهي في الوقت ذاته حركة لطيفة سواء كان المعنى طول الليل وأخذه من النهار ، وطول النهار وأخذه من الليل ؛ أو كان المعنى مجرد تداخل الليل في النهار عند الغروب ، وتداخل النهار في الليل عند الشروق . . ومثل هذه الحركة في خفائها ولطفها ، حركة العلم بذات الصدور . وذات الصدور هي الأسرار المصاحبة لها ، التي لا تفارقها ولا تبرحها !
والشعور بيد الله تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ، في لطف ؛ ينشئ في القلب حالة من التأمل
الرفيق ، والحساسية الشفيفة . كالشعور بعلم الله يتلطف في الاطلاع على ذات الصدور ، الساكنة في خبايا الصدور !
وقوله : يُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهار يعني بقوله : يُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ يدخل ما نقص من ساعات الليل في النهار ، فيجعله زيادة في ساعاته وَيُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ يقول : ويدخل ما نقص من ساعات النهار في الليل ، فيجعله زيادة في ساعات الليل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
وقد ذكرنا الرواية بما قالوا فيما مضى من كتابنا هذا ، غير أن نذكر في هذا الموضع بعض ما لم نذكر هنالك إن شاء الله تعالى :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله : يُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهار وَيُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ قال : قصر هذا في طول هذا ، وطول هذا في قصر هذا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، في قوله : يُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ وَيُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ قال : دخول الليل في النهار ، ودخول النهار في الليل .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، في قوله : يُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ وَيُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ قال : قصر أيام الشتاء في طول ليله ، وقصر ليل الصيف في طول نهاره .
وقوله : وَهُوَ عَلِيمٌ بذَاتِ الصّدُورِ يقول : وهو ذو علم بضمائر صدور عباده ، وما عزمت عليه نفوسهم من خير أو شرّ ، أو حدّثت بهما أنفسهم ، لا يخفى عليه من ذلك خافية .
{ يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل } .
مناسبة ذكره هذه الجملة أن تقدير الليل والنهار وتعاقبهما من التصرفات الإِلهية المشاهدة في أحوال السماوات والأرض وملابسات أحوال الإِنسان ، فهذه الجملة بدل اشتمال من جملة { له ملك السموات والأرض } [ الحديد : 5 ]
وهو أيضاً مناسب لمضمون جملة { وإلى الله ترجع الأمور } [ الحديد : 5 ] تذكير للمشركين بأن المتصرف في سبب الفناء هو الله تعالى فإنهم يعتقدون أن الليل والنهار هما اللذان يُفنيان الناس ، قال الأعشى :
ألم تَروا إرَماً وعادا *** أفناهُما الليلُ والنهار
وحكى الله عنهم قولهم : { وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] فلما قال : { له ملك السموات والأرض وإلى الله ترجع الأمور } [ الحديد : 5 ] ، أبطل بعده اعتقاد أهل الشرك أن للزمان الذي هو تعاقب الليل والنهار والمعبر عنه بالدهر تصرفاً فيهم ، وهذا معنى اسمه تعالى : « المدبر » .
{ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور } .
لما ذكر تصرف الله في الليل وكان الليل وقت إخفاء الأشياء أعقب ذكره بأن الله عليم بأخفى الخفايا وهي النوايا ، فإنها مع كونها معاني غائبة عن الحواس كانت مكنونة في ظلمة باطن الإِنسان فلا يطلع عليها عالم إلا الله تعالى ، وهذا كقوله تعالى : { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض } [ الأنعام : 59 ] ، وقوله : { ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون } [ هود : 5 ] .
{ ذات الصدور } : ما في خواطر الناس من النوايا ، ف ( ذات ) هنا مؤنث ( ذو ) بمعنى صاحبة .
والصحبة : هنا بمعنى الملازمة .
ولما أريد بالمفرد الجنس أضيف إلى « جمع » ، وتقدم { إنه عليم بذات الصدور } في سورة الأنفال ( 43 ) . وقد اشتمل هذا المقدار من أول السورة إلى هنا على معاني ست عشرة صفة من أسماء الله الحسنى : وهي : الله ، العزيز ، الحكيم ، الملك ، المحيي ، المميت ، القدير ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، العليم ، الخالق ، البصير ، الواحد ، المدبر .
وعن ابن عباس أن اسم الله الأعظم هو في ست آيات من أول سورة الحديد فهو يعني مجموع هذه الأسماء .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله: يُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ" يدخل ما نقص من ساعات الليل في النهار، فيجعله زيادة في ساعاته. "وَيُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ" يقول: ويدخل ما نقص من ساعات النهار في الليل، فيجعله زيادة في ساعات الليل... عن عكرمة، في قوله: "يُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهار وَيُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ" قال: قصر هذا في طول هذا، وطول هذا في قصر هذا...
وقوله: "وَهُوَ عَلِيمٌ بذَاتِ الصّدُورِ" يقول: وهو ذو علم بضمائر صدور عباده، وما عزمت عليه نفوسهم من خير أو شرّ، أو حدّثت بهما أنفسهم، لا يخفى عليه من ذلك خافية.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إيلاج الشيء إنما هو إدخاله فيه على إبقاء المدخل فيه. هذا هو المعروف. لكن ما ذكر ههنا ممن إيلاج هذا في هذا وهذا في هذا أن جعل ما كان في حال الاستواء في حد الليل نهارا، وجعل ما كان في حال الاستواء في حد النهار ليلا على إتلاف كل واحد منهما بالآخر لا على الإبقاء. وفي ذلك وجهان من الدلالة:
أحدهما: يدل ذلك على أنه فعل واحد عليهم، له تدبير، لا فعل عدد، لا تدبير له...والثاني: دلالة البعث، وهو إتيان الليل بعد ذهاب أثر النهار وإتيان النهار بعد ذهاب أثر الليل، ونحو ذلك على ما تقدم ذكره. وقوله تعالى: {وهو عليم بذات الصدور} قال أهل التأويل: أي عليم بما في الصدور...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الآية تنبيه على العبرة فيما يتجاذبه الليل والنهار من الطول والقصر، وذلك متشعب مختلف حسب اختلاف الأقطار والأزمان الأربعة، وذلك بحر من بحار الفكرة لمن تأمله.
والمقصود من إعادتها البعث على النظر والتأمل، ثم الاشتغال بالشكر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... ولما كان في هذا إظهار أخفى الأشياء حتى يصير في غاية الجلاء، أتبعه علم ما هو عند الناس أخفى ما يكون فقال: {وهو} أي وحده {عليم} أي بالغ العلم {بذات الصدور} أي ما يصحبها فتخفيه فلا يخرج منها الهمزات على مدى الأيام على كثرة اختلافها وتغيرها وإن خفيت على أصحابها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل. وهو عليم بذات الصدور)... ودخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، حركة دائبة، وهي في الوقت ذاته حركة لطيفة سواء كان المعنى طول الليل وأخذه من النهار، وطول النهار وأخذه من الليل؛ أو كان المعنى مجرد تداخل الليل في النهار عند الغروب، وتداخل النهار في الليل عند الشروق.. ومثل هذه الحركة في خفائها ولطفها، حركة العلم بذات الصدور. وذات الصدور هي الأسرار المصاحبة لها، التي لا تفارقها ولا تبرحها! والشعور بيد الله تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل، في لطف؛ ينشئ في القلب حالة من التأمل الرفيق، والحساسية الشفيفة. كالشعور بعلم الله يتلطف في الاطلاع على ذات الصدور، الساكنة في خبايا الصدور!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وإلى الله ترجع الأمور} تذكير للمشركين بأن المتصرف في سبب الفناء هو الله تعالى فإنهم يعتقدون أن الليل والنهار هما اللذان يُفنيان الناس، وحكى الله عنهم قولهم: {وما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية: 24] فلما قال: {له ملك السموات والأرض وإلى الله ترجع الأمور}، أبطل بعده اعتقاد أهل الشرك أن للزمان الذي هو تعاقب الليل والنهار والمعبر عنه بالدهر تصرفاً فيهم، وهذا معنى اسمه تعالى: « المدبر»... وقد اشتمل هذا المقدار من أول السورة إلى هنا على معاني ست عشرة صفة من أسماء الله الحسنى: وهي: الله، العزيز، الحكيم، الملك، المحيي، المميت، القدير، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، العليم، الخالق، البصير، الواحد، المدبر. وعن ابن عباس أن اسم الله الأعظم هو في ست آيات من أول سورة الحديد، فهو يعني مجموع هذه الأسماء. واعلم أن ما تقدم من أول السورة إلى هنا يرجح أنه مكي.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ذات الصدور) إشارة إلى النيّات والاعتقادات التي استولت على قلوب البشر.