التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِۚ وَهُوَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (6)

{ يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل } .

مناسبة ذكره هذه الجملة أن تقدير الليل والنهار وتعاقبهما من التصرفات الإِلهية المشاهدة في أحوال السماوات والأرض وملابسات أحوال الإِنسان ، فهذه الجملة بدل اشتمال من جملة { له ملك السموات والأرض } [ الحديد : 5 ]

وهو أيضاً مناسب لمضمون جملة { وإلى الله ترجع الأمور } [ الحديد : 5 ] تذكير للمشركين بأن المتصرف في سبب الفناء هو الله تعالى فإنهم يعتقدون أن الليل والنهار هما اللذان يُفنيان الناس ، قال الأعشى :

ألم تَروا إرَماً وعادا *** أفناهُما الليلُ والنهار

وحكى الله عنهم قولهم : { وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] فلما قال : { له ملك السموات والأرض وإلى الله ترجع الأمور } [ الحديد : 5 ] ، أبطل بعده اعتقاد أهل الشرك أن للزمان الذي هو تعاقب الليل والنهار والمعبر عنه بالدهر تصرفاً فيهم ، وهذا معنى اسمه تعالى : « المدبر » .

{ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور } .

لما ذكر تصرف الله في الليل وكان الليل وقت إخفاء الأشياء أعقب ذكره بأن الله عليم بأخفى الخفايا وهي النوايا ، فإنها مع كونها معاني غائبة عن الحواس كانت مكنونة في ظلمة باطن الإِنسان فلا يطلع عليها عالم إلا الله تعالى ، وهذا كقوله تعالى : { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض } [ الأنعام : 59 ] ، وقوله : { ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون } [ هود : 5 ] .

{ ذات الصدور } : ما في خواطر الناس من النوايا ، ف ( ذات ) هنا مؤنث ( ذو ) بمعنى صاحبة .

والصحبة : هنا بمعنى الملازمة .

ولما أريد بالمفرد الجنس أضيف إلى « جمع » ، وتقدم { إنه عليم بذات الصدور } في سورة الأنفال ( 43 ) . وقد اشتمل هذا المقدار من أول السورة إلى هنا على معاني ست عشرة صفة من أسماء الله الحسنى : وهي : الله ، العزيز ، الحكيم ، الملك ، المحيي ، المميت ، القدير ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، العليم ، الخالق ، البصير ، الواحد ، المدبر .

وعن ابن عباس أن اسم الله الأعظم هو في ست آيات من أول سورة الحديد فهو يعني مجموع هذه الأسماء .

واعلم أن ما تقدم من أول السورة إلى هنا يرجح أنه مكي .