ثم ذكرهم بنعمة أخرى ، وكرر عليهم الأمر بتقوى الله فقال : { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِينَ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } .
وقوله : { وَتَنْحِتُونَ } معطوف على { أَتُتْرَكُونَ } فهو داخل فى حيز الإنكار عليهم ، لعدم شكرهم لله - تعالى - والنحت : البري . يقال : نحت فلان الحجر نحتا إذا براه وأعده للبناء .
و { فَارِهِينَ } أى : ماهرين حاذقين فى نحتها . من فره - ككرم - فراهة . إذا برع فى فعل الشىء ، وعرف غوامضه ودقائقه .
قال القرطبى : وقرأ ابن كثير وابو عمرو : { فَارِهِينَ } بغير ألف فى الفاء . وهى بمعنى واحد . . وفرق بينهما قوم فقالوا : { فَارِهِينَ } أى حاذقين فى نحتها . . . وفرهين - بغير ألف - أى : أشرين بطرين فرهين . .
أى : وأنهاكم - أيضا - عن انهماككم فى نحت الحجارة من الجبال بمهارة وبراعة ، لكى تبنوا بها بيوتا وقصورا بقصد الأشر والبطر ، لا يقصد الإصلاح والشكر لله - فمحل النهى إنما هو قصد الأشر والبطر فى البناء وفى النحت .
ثم يزيد ما هو من شأن ثمود خاصة ، وما تقتضيه طبيعة الموقف وطبيعة الظروف . إذ يذكرهم أخوهم صالح بما هم فيه من نعمة - [ وقد كانوا يسكنون بالحجر بين الشام والحجاز ، وقد مر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بدورهم المدمرة مع صحابته في غزوة تبوك ] - ويخوفهم سلب هذه النعمة ، كما يخوفهم ما بعد المتاع من حساب على ما كان من تصرفهم فيه :
أتتركون فيما ها هنا آمنين . في جنات وعيون . وزروع ونخل طلعها هضيم . وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ? .
وإنهم ليعيشون بين هذا المتاع الذي يصوره لهم أخوهم صالح . ولكنهم يعيشون في غفلة عنه لا يفكرون فيمن وهبهم إياه ؛ ولا يتدبرون منشأه ومأتاه ، ولا يشكرون المنعم الذي أعطاهم هذ النعيم . فيأخذ رسولهم في تصوير هذا المتاع لهم ليتدبروه ويعرفوا قيمته ، ويخافوا زواله .
وفيما قاله لهم لمسات توقظ القلوب الغافية ، وتنبه فيها الحرص والخوف : ( أتتركون في ما هاهنا آمنين ? )أتظنون أنكم متروكون لهذا الذي أنتم فيه من دعة ورخاء ومتعة ونعمة . . وسائر ما يتضمنه هذا الإجمال من تفخيم وتضخيم . . أتتركون في هذا كله آمنين لا يروعكم فوت ، ولا يزعجكم سلب ، ولا يفزعكم تغيير ?
أتتركون في هذا كله من جنات وعيون ، وزروع متنوعات ، ونخل جيدة الطلع ، سهلة الهضم حتى كأن جناها مهضوم لا يحتاج إلى جهد في البطون ! وتتركون في البيوت تنحتونها في الصخور بمهارة وبراعة ، وفي أناقة وفراهة ?
وقوله : وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبالِ بُيُوتا فَرِهِينَ يقول تعالى ذكره : وتتخذون من الجبال بيوتا . فاختلفت القرّاء في قراءة قوله فارِهِينَ فقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة : فارِهِينَ بمعنى : حاذقين بنحتها . وقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة : «فَرِهِينَ » بغير ألف ، بمعنى : أشرين بطرين .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك على نحو اختلاف القرّاء في قراءته ، فقال بعضهم : معنى فارهين : حاذقين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح وعبد الله بن شدّاد وتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبالِ بُيُوتا فارِهِينَ قال أحدهما : حاذقين ، وقال الاَخر : يتجبرون .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا مروان ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبالِ بُيُوتا فارِهِينَ قال : حاذقين بنحتها .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فارِهِينَ يقول : حاذقين .
وقال آخرون : معنى فارهين : مستفرهين متجبرين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، عن السديّ ، عن عبد الله بن شدّاد في قوله «فَرِهِينَ » قال : يتجبرون .
قال أبو جعفر : والصواب : فارهين .
وقال آخرون ممن قرأه فارهين : معنى ذلك : كَيّسين . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فاِرِهِينَ قال : كيّسين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك أنه قرأ فارهِينَ قال : كيّسين .
وقال آخرون : فرهين : أشرين . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبالِ بُيُوتا فارِهِينَ يقول : أشرين ، ويقال : كيسين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : «بُيُوتا فَرِهِينَ » قال : شرهين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، بمثله .
وقال آخرون : معنى ذلك : أقوياء . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : «وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبالِ بُيُوتا فَرِهِينَ » قال : الفَرِه : القويّ . وقال آخرون في ذلك بما :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة ، في قوله «فَرِهِينَ » قال : معجبين بصنيعكم .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن قراءة من قرأها فارِهِينَ وقراءة من قرأ «فَرِهِينَ » قراءتان معروفتان ، مستفيضة القراءة بكل واحدة منهما في علماء القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . ومعنى قراءة من قرأ فارِهِينَ : حاذقين بنحتها ، متخيرين لمواضع نحتها ، كيسين ، من الفراهة . ومعنى قراءة من قرأ «فَرِهِينَ » : مَرِحين أشرين . وقد يجوز أن يكون معنى فَارِه وفَرِه واحدا ، فيكون فاره مبنيا على بنائه ، وأصله من فعل يفعل ، ويكون فره صفة ، كما يقال : فلان حاذق بهذا الأمر وحَذِق . ومن الفاره بمعنى المرح قول الشاعر عديّ بن وادع العوفي من الأزد :
لا أسْتَكِينُ إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْ *** وَلَنْ تَرَانِي بِخَيْرٍ فارِهَ الطّلَبِ
وقرأ الجمهور «تنحِتون » بكسر الحاء ، وقرأ عيسى بفتحها ، وذكر أنها لغة قال أبو عمرو وهي قراءة الحسن وأبي حيوة ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر «فارهين » وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «فرهين » ، وقرأ مجاهد «متفرهين » على وزن متفعلين ، واللفظة مأخوذة من الفراهة وهي جودة منظر الشيء وخبرته وقوته وكماله في نوعه فمعنى الآية كَيّسين متهممين قاله ابن عباس ، وقال مجاهد شرهين . وقال ابن زيد أقوياء وقال أبو عمرو بن العلاء آشرين بطرين ، وذهب عبد الله بن شداد إلى أنه بمعنى مستفرهين أي مبالغين في استحازة{[8960]} الفاره من كل ما تصنعونه وتشتهونه .
{ تنحتون } عطف على { آمنين } ، أي وناحتين ، عبر عنه بصيغة المضارع لاستحضار الحالة في نحتهم بيوتاً من الجبال . وتقدم ذلك في سورة الأعراف .
و { فَرِهِين } صيغة مبالغة في قراءة الجمهور بدون ألف بعد الفاء ، مشتق من الفراهة وهي الحذق والكياسة ، أي عارفين حذقين بنحت البيوت من الجبال بحيث تصير بالنحت كأنها مبنية . وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف { فارهين } بصيغة اسم الفاعل .