{ 43 - 45 } { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ * وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }
يخبر تعالى عن حالة المشركين ، عندما تتلى عليهم آيات اللّه البينات ، وحججه الظاهرات ، وبراهينه القاطعات ، الدالة على كل خير ، الناهية عن كل شر ، التي هي أعظم نعمة جاءتهم ، ومِنَّةٍ وصلت إليهم ، الموجبة لمقابلتها بالإيمان والتصديق ، والانقياد ، والتسليم ، أنهم يقابلونها بضد ما ينبغي ، ويكذبون من جاءهم بها ويقولون : { مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ } أي : هذا قصده ، حين يأمركم بالإخلاص للّه ، لتتركوا عوائد آبائكم ، الذين تعظمون وتمشون خلفهم ، فردوا الحق ، بقول الضالين ، ولم يوردوا{[740]} برهانا ، ولا شبهة .
فأي شبهة إذا أمرت الرسل بعض الضالين ، باتباع الحق ، فادَّعوا أن إخوانهم ، الذين على طريقتهم ، لم يزالوا عليه ؟ وهذه السفاهة ، ورد الحق ، بأقوال الضالين ، إذا تأملت كل حق رد ، فإذا هذا مآله لا يرد إلا بأقوال الضالين من المشركين ، والدهريين ، والفلاسفة ، والصابئين ، والملحدين في دين اللّه ، المارقين ، فهم أسوة كل من رد الحق إلى يوم القيامة .
ولما احتجوا بفعل آبائهم ، وجعلوها دافعة لما جاءت به الرسل ، طعنوا بعد هذا بالحق ، { وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى } أي : كذب افتراه هذا الرجل ، الذي جاء به . { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } أي : سحر ظاهر بيِّن لكل أحد ، تكذيبا بالحق ، وترويجا على السفهاء .
ثم تعود السورة الكريمة إلى الحديث عن جانب من اقوال هؤلاء المشركين فى شأن النبى صلى الله عليه وسلم وفى شأن القرآن الكريم ، وتهددهم بسوء الصمير إذا استمروا فى طغيانهم وجهلهم فتقول : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا . . . فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } .
قوله : { تتلى } من التلاوة ، وهى قراءة الشئ بتدبر وتفهم .
أى : وإذا ما تليت آياتنا الدالة دلالة واضحة على وحدانيتنا وقدرتنا ، وعلى صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنا .
{ قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ } أى : قالوا على سبيل الإِنكار والاستهزاء ، ما هذا التالى لتلك الآيات إلا رجل يريد أن يمنعكم عن عبادة الآلهة التى كان يعبدها آباؤكم الأقدمون .
ويعنون بقولهم { مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ } الرسول صلى الله عليه وسلم ويقصدون بالإِشارة إليه ، الاستخفاف به ، والتحقير من شأنه صلى الله عليه وسلم .
وقالوا : { يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ } لإِثارة حمية الجاهلية فيهم فكأنهم يقولون لهم : احذروا اتباع هذا الرجل ، لأنه يريد أن يجعلهم من أتباعه ، وأن يقطع الروابط التى تربط بينكم وبين آبائكم الذين أنتم قطعة منهم .
ولم يكتفوا بالتشكيك فى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بل أضافوا إلى ذلك التكذب للقرآن الكريم ، ويحكى - سبحانه - ذلك فيقول : { وَقَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى } .
أى : وقالوا فى شأن القرآن الكريم : ما هذا الذى يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم علينا ، إلا { إِفْكٌ } أى : كلام مصروف عن وجهه ، وكذب فى ذاته { مُّفْتَرًى } أى : مختلق على الله - تعالى - من حيث نسبته إليه .
فقوله { مُّفْتَرًى } صفة أخرى وصفوا بها القرآن الكريم ، فكأنهم يقولون - قبحهم الله - ما هذا القرآن إلا كذب فى نفسه ، ونسبته إلى الله - تعالى - ليست صحيحة .
ثم أضافوا إلى تكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن ، تكذيبا عاما لكل ما جاءهم به الرسول من حق ، فقالوا - كما حكى القرآن عنهم - : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } .
أى : وقال الكافرون فى شأن كل حق جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم : ما هذا الذى جئتنا به إلا سحر واضح .
وهكذا نراهم - لعنادهم وجهلهم - قد كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وكذبوا القرآن . وكذبوا كل توجيه قويم ، وإرشاد حكيم ، أرشدهم إليه صلى الله عليه وسلم إذ اسم الإِشارة الأول يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والثانى يعود إلى القرآن ، والثالث يعود إلى تعاليم الإِسلام كلها .
( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا : ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم . وقالوا : ما هذا إلا إفك مفترى . وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم : إن هذا إلا سحر مبين . وما آتيناهم من كتب يدرسونها ، وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير . وكذب الذين من قبلهم - وما بلغوا معشار ما آتيناهم - فكذبوا رسلي ، فكيف كان نكير ? ) . .
لقد قابلوا الحق الواضح البين الذي يتلوه عليهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] برواسب غامضة من آثار الماضي ، وتقاليد لا تقوم على أساس واضح ، وليس لها قوام متماسك . ولقد أحسوا خطورة ما يواجههم به القرآن الكريم من الحق البسيط المستقيم المتماسك . أحسوا خطورته على ذلك الخليط المشوش من العقائد والعادات والتقاليد التي وجدوا عليها آباءهم فقالوا قولتهم تلك :
( ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم ) . .
ولكن هذا وحده لا يكفي . فإن مجرد أنه يخالف ما كان عليه الآباء ليس مطعناً مقنعاً لجميع العقول والنفوس . ومن ثم أتبعوا الادعاء الأول بادعاء آخر يمس أمانة المبلغ ، ويرد قوله أنه جاء بما جاء به من عند الله :
( وقالوا : ما هذا إلا إفك مفترى ) . .
والإفك هو الكذب والافتراء ؛ ولكنهم يزيدونه توكيداً : ( ما هذا إلا إفك مفترى ) . .
ذلك ليشككوا في قيمته ابتداء ، متى أوقعوا الشك في مصدره الإلهي .
( وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم : إن هذا إلا سحر مبين ) . .
فهو كلام مؤثر يزلزل القلوب ، فلا يكفي أن يقولوا : إنه مفترى . فحاولوا إذن أن يعللوا وقعه القاهر في القلوب . فقالوا : إنه سحر مبين !
فهي سلسلة من الاتهامات ، حلقة بعد حلقة ، يواجهون بها الآيات البينات كي يحولوا بينها وبين القلوب . ولا دليل لهم على دعواهم . ولكنها جملة من الأكاذيب لتضليل العامة والجماهير . أما الذين كانوا يقولون هذا القول - وهم الكبراء والسادة - فقد كانوا على يقين أنه قرآن كريم ، فوق مقدور البشر ، وفوق طاقة المتكلمين ! وقد سبق في الظلال ما حدث به بعض هؤلاء الكبراء بعضاً في أمر محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وأمر القرآن ؛ وما دبروا بينهم من كيد ليصدوا به الجماهير عن هذا القرآن الذي يغلب القلوب ويأسر النفوس !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هََذَا إِلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدّكُمْ عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هََذَآ إِلاّ إِفْكٌ مّفْتَرًى وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ إِنْ هََذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ } .
يقول تعالى ذكره : وإذا تُتلى على هؤلاء المشركين آيات كتابنا بيّنات يقول : واضحات أنهنّ حقّ من عندنا قالُوا ما هَذَا إلاّ رَجُلُ يُرِيدُ أنْ يَصُدّكُمْ عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ يقول : قالوا عند ذلك : لا تتبعوا محمدا ، فما هو إلاّ رجل يريد أن يصدّكم عما كان يعبد آباؤكم من الأوثان ، ويغير دينكم ودين آبائكم وَقالُوا ما هَذَا إلاّ إفْكٌ مُفْتَرًى يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون : ما هذا الذي تتلو علينا يا محمد ، يعنون القرآن ، إلاّ إفك . يقول : إلاّ كَذِبٌ مُفْترى يقول : مختلَق . متخرّص وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا للْحَقّ لما جَاءهمْ إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ يقول جلّ ثناؤه : وقال الكفار للحقّ ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم لما جاءهم ، يعني : لما بعثه الله نبيا : هذا سحر مبين يقول : ما هذا إلاّ سحر مبين ، يبين لمن رآه وتأمله أنه سحر .
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا } يعنون محمدا عليه الصلاة والسلام . { إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم } فيستتبعكم بما يستبدعه . { وقالوا ما هذا } يعنون القرآن . { إلا إفك } لعدم مطابقة ما فيه الواقع . { مفترى } بإضافته إلى الله سبحانه وتعالى . { وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم } لأمر النبوة أو للإسلام أو للقرآن ، والأول باعتبار معناه وهذا باعتبار لفظه وإعجازه . { إن هذا إلا سحر مبين } ظاهر سحريته ، وفي تكرير الفعل والتصريح بذكر الكفرة وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه ، وما في { لما } من المبادهة إلى البت بهذا القول إنكار عظيم له وتعجيب بليغ منه .
وقوله { وإذا تتلى عليهم آياتنا } ذكر الله تعالى في هذه الآية أقوال الكفرة وأنواع كلامهم عندما يقرأ عليهم القرآن ويسمعون حكمته وبراهينه البينة ، فقائل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يقدح في الأوثان ودين الآباء ، وقائل طعن عليه بأن هذا القرآن مفترى أي مصنوع من قبل محمد صلى الله عليه وسلم ويدعي أنه من عند الله ، وقائل طعن عليه بأن ما عنده من الرقة واستجلاب النفوس واستمالة الأسماع إنما هو سحر به يخلب ويستدعى ، تعالى الله عن أقوالهم وتقدست شريعته عن طعنهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا تتلى عليهم آياتنا} وإذا قرئ عليهم القرآن {بينات} ما فيه من الأمر والنهي.
{قالوا ما هذا إلا رجل} يعنون النبي صلى الله عليه وسلم.
{يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا} القرآن {إلا إفك} كذب {مفترى} افتراه محمد صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه.
{وقال الذين كفروا} من أهل مكة {للحق لما جاءهم} يعنون القرآن حين جاءهم {إن هذا} القرآن {إلا سحر مبين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: "وإذا تُتلى "على هؤلاء المشركين آيات كتابنا "بيّنات": واضحات أنهنّ حقّ من عندنا.
"قالُوا ما هَذَا إلاّ رَجُلُ يُرِيدُ أنْ يَصُدّكُمْ عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ": قالوا عند ذلك: لا تتبعوا محمدا، فما هو إلاّ رجل يريد أن يصدّكم عما كان يعبد آباؤكم من الأوثان، ويغير دينكم ودين آبائكم.
"وَقالُوا ما هَذَا إلاّ إفْكٌ مُفْتَرًى": وقال هؤلاء المشركون: ما هذا الذي تتلو علينا يا محمد، يعنون القرآن، "إلاّ إفك": إلاّ كَذِبٌ مُفْترى: مختلَق، متخرّص.
طوَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا للْحَقّ لما جَاءهمْ إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ": وقال الكفار للحقّ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم لما جاءهم: لما بعثه الله نبيا: هذا سحر مبين يقول: ما هذا إلاّ سحر مبين، يبين لمن رآه وتأمله أنه سحر...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدّكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مُفترىً}: يريد كل رسول أن يصدّ قومه عما كان يعبد آباؤهم من الأصنام والأوثان، لكن هذا القول من أولئك الرؤساء:إغراء الأتباع على الرسل، يقولون: ألا ترون أن واحدا قد خالف الآباء في دينهم، ويريد أن يصدّكم عن دين آبائكم.
{للحق لما جاءهم} أي لما جاء الحق، وهو القرآن [وما فيه من التوحيد والبيان] والإيضاح له أنه الحق، وأنه من عند الله، وهو الآيات والبراهين التي جاءت له أنه حق، وأنه من عند الله جاء، لا أنه مفترى وإفك وسحر على ما تزعمون. ولما تزعمون. ولم يزل طعن أولئك الكفرة في الآيات والحجج بأنها سحر وأنها افتراء يُلبِسون بذلك على أولئك الأتباع والسفلة، ويموّهون عليهم، ويفترون، لئلا يتّبعوه، ويستسلمون لهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الإشارة الأولى: إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والثانية: إلى القرآن. والثالثة: إلى الحق؛ والحق أمر النبوّة كله ودين الإسلام كما هو.
وفي قوله: {َقَالَ الذين كَفَرُواْ} وفي أن لم يقل وقالوا، وفي قوله: {لِلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ} وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه، وما في (لما) من المبادهة بالكفر: دليل على صدور الكلام عن إنكار عظيم وغضب شديد، وتعجيب من أمرهم بليغ، كأنه قال: وقال أولئك الكفرة المتمرّدون بجراءتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق النير قبل أن يذوقوه {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} فبتوا القضاء على أنه سحر، ثم بتوه على أنه بين ظاهر كل عاقل تأمّله سماه سحراً...
إظهارا لفساد اعتقادهم واشتداد عنادهم حيث تبين أن أعلى من يعبدونه وهم الملائكة لا يتأهل للعبادة لذواتهم؛ أي لا أهلية لنا لأن نكون معبودين لهم ولا لنفع أو ضر، ثم مع هذا كله إذا قال لهم النبي عليه السلام كلاما من التوحيد وتلا عليهم آيات الله الدالة عليه، فإن لله في كل شيء آيات دالة على وحدانيته أنكروها، وقالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم يعني يعارضون البرهان بالتقليد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر أنهم أبوا الإيمان بالقرآن، المخبر بالغيب من أمر الرحمن، وختم بأنهم آمنوا بالجن غيباً وعبدوهم من دون الله بما لم يدع إليه عقل ولا نقل، أتبعه الإخبار بأنهم لازموا الإصرار على ذلك الكفر والتكذيب بما كله صدق وحكم فقال:
{وإذا تتلى} أي في وقت من الأوقات من أيّ تال كان.
{عليهم} أي خاصة لم يشركهم غيرهم ليقولوا: إنه المقصود بالتلاوة، فلا يلزمهم الاستماع.
{آياتنا} حال كونها {بينات} ما قالت شيئاً إلا ظهرت حقيته.
{قالوا} أي على الفور من غير تأمل لما حملهم على ذلك من حظ النفس.
ولما كان المستكبرون يرون ما للرسالة من الظهور، وللرسول من القبول، وأن أتباعهم قد ظهر لهم ذلك، فمالوا إليه بكلياتهم، أكده قولهم: {ما هذا} أي التالي لها على ما فيه من السمت المعلم بأنه أصدق الخلق وأعلاهم همة وأبينهم نصيحة.
{إلا رجل} أي مع كونه واحداً هو مثل واحد من رجالكم، وتزيدون عليه أنتم بالكثرة، ولم يسندوا الفعل إليهم نفياً للغرض عن أنفسهم وإلهاباً للمخاطبين فقالوا: {يريد أن يصدكم} أي بهذا الذي يتلوه {عما كان} دائماً {يعبد آباؤكم} أي لا قصد له إلا ذلك لتكونوا له أتباعاً، وألهبوا السامعين بتصوير آبائهم بذكر "كان "والفعل المضارع ملازمين للعبادة ليثبتوا على كفرهم بما لا دليل عليه ولا شبهة ولا داع سوى التقليد.
ولما كانت أدلة الكتاب واضحة، خافوا عاقبتها في قبول الاتباع لها، فجزموا بأنها كذب ليوقفوهم بذلك، فحكى ذلك عنهم سبحانه بقوله: {وقالوا ما هذا إلا إفك} أي كذب مصروف عن وجهه {مفترى} أي متعمد ما فيه من الصرف.
ولما كان فيه ما لا يشك أحد في حقيته، لبسوا عليهم بأنه خيال يوشك أن ينكشف إيقافاً لهم إلى وقت ما، فقال تعالى إخباراً عنهم: {وقال} ولما كان الحق قد يخفى، ولم يقيده بالبيان كما فعل في الآيات، أظهر موضع الإضمار بياناً للوصف الحامل لهم على ذلك القول وهو التدليس، فقال: {الذين كفروا} أي ستروا ما دلت عليه العقول من حقية القرآن.
{للحق} أي الذي لا أثبت منه باعتبار كمال الحقية فيه.
{لما جاءهم} أي من غير أن يمهلوا النظر ولا تدبر ليقال إن الداعي لهم إلى ما قالوا نوع شبهة عرضت لهم، بل أظهروا بالمسارعة إلى الطعن أنه مما لا يتوقف فيه، وأكدوا لما تقدم من خوفهم على أتباعهم ليخيلوهم فقالوا: {إن} أي ما.
{هذا} أي الثابت الذي لا يكون شيء أثبت منه.
{إلا سحر} أي خيال لا حقيقة له.
{مبين} أي ظاهر العوار جداً، فهو ينادي على نفسه بذلك، فلا تغتروا بما فيه مما يميل النفوس ويؤثر في القلوب.
ولقد انصدّ لعمري بهذا التلبيس -مع أن في نسبتهم له إلى السحر الاعتراف بالعجز- بشر كثير برهة من الدهر حتى هدى الله بعضهم، وتمادى بالآخرين الأمر حتى ماتوا على ضلالهم، مع أنه كان ينبغي لكل من رأى مبادرتهم وتحرقهم أن يعرف أنهم متغرضون، لم يحملهم على ذلك إلا الحظوظ النفسانية، والعلق الشهوانية. قال الطفيل ابن عمرو الدوسي ذو النور رضي الله عنه: لقد اكثروا عليّ في أمره حتى حشوت في أذنيّ الكرسف خوفاً من أن يخلص إلى شيء من كلامه فيفتنني، ثم أراد الله بي الخير فقلت: واثكل أمي إني والله لبيب عاقل شاعر، ولي معرفة بتمييز غث الكلام من سمينه، فما لي لا أسمع منه، فإن كان حقاً تبعته، وإن كان باطلاً كنت منه على بصيرة -أو كما قال، قال: فقصدت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: اعرض عليّ ما جئت به، فلما عرضه عليّ بأبي هو وأمي ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، فما توقفت في أن أسلمت، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله له أن يعطيه آية تعينه على قومه، فلما أشرف على حاضر قومه كان له نور في جبهته، فخشي أن يظنوا أنها مثلة، فدعا بتحويله، فتحول في طرف سوطه، فأعانه الله على قومه فأسلموا...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ورد الحق، بأقوال الضالين، إذا تأملت كل حق رد، فإذا هذا مآله لا يرد إلا بأقوال الضالين من المشركين، والدهريين، والفلاسفة، والصابئين، والملحدين في دين اللّه، المارقين، فهم أسوة كل من رد الحق إلى يوم القيامة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد قابلوا الحق الواضح البين الذي يتلوه عليهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] برواسب غامضة من آثار الماضي، وتقاليد لا تقوم على أساس واضح، وليس لها قوام متماسك. ولقد أحسوا خطورة ما يواجههم به القرآن الكريم من الحق البسيط المستقيم المتماسك. أحسوا خطورته على ذلك الخليط المشوش من العقائد والعادات والتقاليد التي وجدوا عليها آباءهم فقالوا قولتهم تلك: (ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم).. ولكن هذا وحده لا يكفي. فإن مجرد أنه يخالف ما كان عليه الآباء ليس مطعناً مقنعاً لجميع العقول والنفوس. ومن ثم أتبعوا الادعاء الأول بادعاء آخر يمس أمانة المبلغ، ويرد قوله أنه جاء بما جاء به من عند الله: (وقالوا: ما هذا إلا إفك مفترى)...
. (وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم: إن هذا إلا سحر مبين).. فهو كلام مؤثر يزلزل القلوب، فلا يكفي أن يقولوا: إنه مفترى. فحاولوا إذن أن يعللوا وقعه القاهر في القلوب. فقالوا: إنه سحر مبين! فهي سلسلة من الاتهامات، حلقة بعد حلقة، يواجهون بها الآيات البينات كي يحولوا بينها وبين القلوب. ولا دليل لهم على دعواهم. ولكنها جملة من الأكاذيب لتضليل العامة والجماهير. أما الذين كانوا يقولون هذا القول -وهم الكبراء والسادة- فقد كانوا على يقين أنه قرآن كريم، فوق مقدور البشر، وفوق طاقة المتكلمين! وقد سبق في الظلال ما حدث به بعض هؤلاء الكبراء بعضاً في أمر محمد [صلى الله عليه وسلم] وأمر القرآن؛ وما دبروا بينهم من كيد ليصدوا به الجماهير عن هذا القرآن الذي يغلب القلوب ويأسر النفوس...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إيراد حكاية تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم مقيدةً بالزمن الذي تتلى عليهم فيه آيات الله البينات تعجيب من وقاحتهم حيث كذبوه في أجدر الأوقات بأن يصدقوه عندها لأنه وقت ظهور حجة صدقه لكل عاقل متبصر.
وصفها بالبيّنات لأجل ظهور أنها من عند الله لإِعجازها إياهم عن معارضتها.
استحضروه بطريق الإِشارة دون الاسم إفادة لحضوره مجلس التلاوة وذلك من تمام وقاحتهم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليهم القرآن في مجالسهم كما ورد في حديث قراءته على عتبة بن ربيعة سورة فُصلت وقراءِته على عبد الله بن أُبَيّ ابن سَلول للقرآن بالمدينة في القصة التي تشاجر فيها المسلمون والمشركون.
السحر له أسلوبان: أحدهما شعوذة الأقوال التي لا تفهم مدلولاتها يختلقها السحرة ليوهموا الناس أن فيها مناجاة مع الجن ليمكنوهم من عمل ما يريدون فيسترهبوهم بذلك، وثانيهما أفعال لها أسباب خفية مستورة بحِيل وخفة أيدٍ تحركها فيوهمون بها الناس أنها من تمكين الجن إياهم التصرف في الخفيات، فإذا سمعوا القرآن ألحقوه بالأسلوب الأول، وإذا رأوا المعجزات ألحقوها بالأسلوب الثاني كما قالت المرأة التي شاهدتْ معجزةَ تكثير الماء في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وسلم فقالت لقومها « أتيتُ أسحرَ الناس، أو هو نبيء كما زعموه»...
...إذا كان محمد ساحراً سحر المؤمنين به كما تقولون، فلماذا لم يسحركم أيضاً وتنتهي هذه المسألة؟ ومعلوم أنه لا خيار للمسحور مع الساحر. إذن: هذا القول منهم كذب على سيدنا رسول الله وعناد ومكابرة لعدم قبول الحق الذي جاء به.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
استخدامهم تعبير «آباؤكم» بدل «آباؤنا»، يفهم منه أنّهم يريدون القول لقومهم بأنّ تراث الأجداد في خطر، وإنّ عليكم النهوض والتصدّي لهذا الرجل عن العبث بذلك الميراث.
ثمّ تعبير (ما هذا إلاّ رجل) إنّما يقصد به تحقير النّبي (صلى الله عليه وآله) من جهتين الاُولى كلمة «هذا» والثّانية «رجل» بهيأة النكرة، مع العلم بأنّهم يعرفون النّبي (صلى الله عليه وآله) جيّداً، ويعلمون بأنّ له ماضياً مشرقاً.
«الإفك» يطلق على الأكاذيب الكبيرة. وكان يكفي استخدامهم لكلمة «الإفك» في إتّهام الرّسول (صلى الله عليه وآله) بالكذب، لكنّهم أرادوا تأكيد ذلك المعنى باستخدامهم لكلمة «مفترى»، دون أن يكون لهم أدنى دليل على ذلك الادّعاء. وأخيراً، كان الاتّهام الثالث الذي ألصقوه بالرّسول (صلى الله عليه وآله) هو (السحر).
هذه الصفات الذميمة الثلاثة ليست متضادّة فيما بينها مع أنّ هؤلاء لا يأنفون من الكلام المتضادّ، فلا داعي كما يقول المفسّرين لاعتبار أنّ كلّ واحدة من هذه الصفات تنسب إلى مجموعة مستقلّة من الكفّار.
كذلك فمن الجدير بالملاحظة أنّ القرآن الكريم استخدم في المرتين الاُولى والثّانية جملة «قالوا»، ثمّ استخدم في المرّة الثالثة جملة «قال الذين كفروا»، إشارة إلى أنّ كلّ التعاسة التي أصابتهم إنّما منشأها الكفر وإنكار الحقّ ومعاداة الحقيقة، وإلاّ فكيف يمكن لأحد أن يتّهم رجلا تظهر دلائل حقّانيته من حديثه وعمله وماضيه بهذه التّهم المتلاحقة وبلا أدنى دليل.