وقوله - سبحانه - { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } زيادة فى توبيخهم وإذلالهم ، والوقف هنا : بمعنى الحبس .
قال القرطبى : يقال : وقفت الدابة أقفها وقفا فوقفت هى وقوفا : أى : احبسوهم ، وهذا يكون قبل السوق إلى الجحيم ، وفيه تقديم وتأخير أى : قفوهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار . . أى : واحبسوهم فى موقف الحساب ، لأنهم مسئولون عما كانوا يقترفونه فى الدنيا من عقائد زائفة ، وأفعال منكرة ، وأقوال باطلة .
ولا تعارض بين هذه الآية وأمثالها من الآيات التى صرحت بأن المجرمين يسألون يوم القيامة ، وبين آيات أخرى صرحت بأنهم لا يسألون كما فى قوله - تعالى - : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } أقول لا تعارض بين هذه الآيات ، لأن فى يوم القيامة مواقف متعددة ، فقد يسألون فى موقف ولا يسألون فى آخر . . أو أن السؤال المثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع والسؤال المنفى هو سؤال الاستعلام والاستخبار .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنّهُمْ مّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَقِفُوهُمْ : احبسوهم : أي احبسوا أيها الملائكة هؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم وأزواجهم ، وما كانوا يعبدون من دون الله من الاَلهة إنّهُمْ مَسْئُولُونَ فاختلف أهل التأويل في المعنى الذي يأمر الله تعالى ذكره بوقفهم لمسألتهم عنه ، فقال بعضهم : يسألهم هل يعجبهم ورود النار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، قال : حدثنا أبو الزعراء ، قال : كنا عند عبد الله ، فذكر قصة ، ثم قال : يتمثل الله للخلق فيلقاهم ، فليس أحد من الخلق كان يعبد مِن دون الله شيئا إلا وهو مرفوع له يتبعه قال : فيلقى اليهود فيقول : من تعبدون ؟ فيقولون : نعبد عُزَيرا ، قال : فيقول : هل يسرّكم الماء ؟ فيقولون : نعم ، فيريهم جهنم وهي كهيئة السّراب ، ثم قرأ : وَعَرَضْنا جَهَنّمَ لِلْكافِرِينَ عَرْضا قال : ثم يلقى النصارَى فيقول : من تعبدون ؟ فيقولون : المسيح ، فيقول : هل يسرّكم الماء ؟ فيقولون : نعم ، فيريهم جهنم ، وهي كهيئة السراب ، ثم كذلك لمن كان بعبد من دون الله شيئا ، ثم قرأ عبد الله وَقفُوهُمْ إنّهُمْ مَسْئُولُونَ .
وقال آخرون : بل ذلك للسؤال عن أعمالهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا معتمر ، عن ليث ، عن رجل ، عن أنس بن مالك ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «أيّمَا رَجُلٍ دَعا رَجُلاً إلى شَيْءٍ كانَ مَوْقُوفا لازِما بِهِ ، لا يُغادِرُهُ ، وَلا يُفارقُهُ » ثُمّ قَرأ هَذِهِ الاَيَةَ : وَقِفُوهُمْ إنّهُم مَسْئُولُونَ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقفوا هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وأزواجهم إنهم مسئلون عما كانوا يعبدون من دون الله .
ثم يأمر تعالى بوقفهم ، و «وقف » يتعدى بنفسه تقول وقفت ووقفت زيداً ، وأمره بذلك على جهة التوبيخ لهم والسؤال واختلف الناس في الشيء الذي يسألون عنه فروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : يسألون هل يحبون شرب الماء البارد ، وهذا على طريق الهزء بهم ، وقال ابن عباس : يُسألون عن لا إله إلا الله ، وقال جمهور المفسرين : يُسألون عن أعمالهم ويوقفون على قبحها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول متجه عام في الهزء وغيره وروى أنس بن مالك عن النبي عليه السلام أنه قال «أيما رجل دعا رجلاً إلى شيء كان لازماً له » ، وقرأ { وقفوهم إنهم مسؤولون }{[9837]} ، وروى ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تزول قدماً عبد من بين يدي الله تعالى حتى يسأله عن خمس ، عن شبابه فيما أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه ، وعن ماله فيما أنفقه ، وكيف كسبه ، وعما عمل فيما علم{[9838]} » ، ويحتمل عندي أن يكون المعنى على نحو ما فسره بقوله { ما لكم لا تناصرون } .
معنى : { وَقِفُوهُم } أمر بإيقافهم في ابتداء السير بهم لما أفاده الأمر من الفور بقرينة فاء التعقيب التي عطفته ، أي احبسوهم عن السير قَليلاً ليُسألوا سؤال تأييس وتحقير وتغليظ ، فيقال لهم : { ما لكم لا تناصرون } ، أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً فيدفع عنه الشقاء الذي هو فيه ، وأين تناصركم الذي كنتم تتناصرون في الدنيا وتتألبون على الرسول وعلى المؤمنين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقفوهم إنهم مسئولون} فلما سيقوا إلى النار حبسوا، فسألهم خزنة جهنم: ألم تأتكم رسلكم بالبينات؟
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَقِفُوهُمْ": احبسوهم: أي احبسوا أيها الملائكة هؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم وأزواجهم، وما كانوا يعبدون من دون الله من الآلهة. "إنّهُمْ مَسْئُولُونَ "فاختلف أهل التأويل في المعنى الذي يأمر الله تعالى ذكره بوقفهم لمسألتهم عنه؛
فقال بعضهم: يسألهم هل يعجبهم ورود النار...
وقال آخرون: بل ذلك للسؤال عن أعمالهم... وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقفوا هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وأزواجهم إنهم مسئولون عما كانوا يعبدون من دون الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقفوهم إنهم مسئولون} يحتمل الوقف للحساب، ويحتمل {مسئولون} أي محاسبون.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين كسبه، وفيما أنفقه، وما عمِلَ فيما علم"
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"إنهم مسئولون" عما كلفهم الله في الدنيا من عمل الطاعات واجتناب المعاصي، هل فعلوا ما أمروا به أم لا؟ على وجه التقرير لهم والتبكيت دون الاستعلام.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
عن أنس بن مالك [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أيما داع دعا إلى شيء كان موقوفًا معه إلى يوم القيامة، لا يغادره ولا يفارقه، وإن دعا رجل رجلا"، ثم قرأ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} رواه الترمذي.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان المقصود من تعريفهم طريق النار أولاً ازدياد الحسرة، صرح بما أفهمه حرف الغاية من طول الحبس فقال: {وقفوهم} أي احبسوهم واقفين بعد ترويعهم بتلك الهداية التي سببها الضلال، فكانت ثمرتها الشقاوة، وإيقافهم يكون عند الصراط... ثم علل ذلك بقوله: {إنهم مسؤولون} وجمع عليهم الهموم بهذه الكلمة لتذهب أوهامهم كل مذهب، فلا تبقى حسرة إلا حضرتهم، ولا مصيبة إلا علت قلوبهم فقهرتهم، فإن المكلف كله ضعف وعورة، فموقف السؤال عليه أعظم حسرة.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَقِفُوهُمْ}... ليُسألوا، لكن لا عن عقائدهم وأعمالهم كما قيل، فإنَّ ذلك قد وقع قبل الأمرِ بهم إلى الجحيمِ؛ بل عمَّا ينطقُ به قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لاَ تناصرون}...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
ظاهر الآية أن الحبس للسؤال بعد هدايتهم إلى صراط الجحيم، بمعنى تعريفهم إياه ودلالتهم عليه، لا بمعنى إدخالهم فيه وإيصالهم إليه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} عما كانوا يفترونه في الدنيا، ليظهر على رءوس الأشهاد كذبهم وفضيحتهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معنى: {وَقِفُوهُم} أمر بإيقافهم في ابتداء السير بهم لما أفاده الأمر من الفور بقرينة فاء التعقيب التي عطفته، أي احبسوهم عن السير قَليلاً ليُسألوا سؤال تأييس وتحقير وتغليظ، فيقال لهم: {ما لكم لا تناصرون}، أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً فيدفع عنه الشقاء الذي هو فيه، وأين تناصركم الذي كنتم تتناصرون في الدنيا وتتألبون على الرسول وعلى المؤمنين.