وأن من أكبر الظلم وأفحش القول ، اتخاذ أنداد للّه من دونه ، ليس بيدهم نفع ولا ضرر ، بل هم مخلوقون مفتقرون إلى الله في جميع أحوالهم ، ولهذا عقبه بقوله : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ }
يتولونهم بالعبادة والطاعة ، كما يعبدون الله ويطيعونه ، فإنما اتخذوا الباطل ، وليسوا بأولياء على الحقيقة . { اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } يحفظ عليهم أعمالهم ، فيجازيهم بخيرها وشرها . { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } فتسأل عن أعمالهم ، وإنما أنت مبلغ أديت وظيفتك .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المشركين فقال : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } .
أى : والذين اتخذوا من دون الله - تعالى - شفعاء وشركاء ليقربوهم إليه زلفى ، الله - تعالى - وحده رقيب عليهم ، وسيجازيهم بما يستحقون من عقاب يوم القيامة ، وما أ ، ت - أيها الرسول الكريم - عليهم بحفيظ أو رقيب على أعمالهم ، وإنما أنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب .
وَالّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وَالّذِينَ اتّخَذُوا يا محمد من مشركي قومك مِنْ دُونِهِ اللّهِ آلهة يتولونها ويعبدونها اللّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ يُحْصِي عليهم أفعالهم ، ويحفظ أعمالهم ، ليجازيهم بها يوم القيامة جزاءهم وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ يقول : ولست أنت يا محمد بالوكيل عليهم بحفظ أعمالهم ، وإنما أنت منذر ، فبلغهم ما أرسلت به إليهم ، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب .
هذه آية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفار وإزالة عن النبي صلى الله عليه وسلم جميع الكلف{[10112]} سوى التبليغ فقط ، لئلا يهتم بعدم إيمان قريش وغيرهم ، فقال تعالى لنبيه : إن الذين اتخذوا الأصنام والأوثان أولياء من دون الله ، الله هو الحفيظ عليهم كفرهم ، المحصي لأعمالهم ، المجازي لهم عليها بعذاب الآخرة ، وأنت فلست بوكيل عليهم ولا ملازم لأمرهم حتى يؤمنوا . والوكيل : المقيم على الأمر ، وما في هذا اللفظ من موادعة فهو منسوخ بآية السيف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين اتخذوا من دونه أولياء} يعبدونها من دون الله.
{الله حفيظ عليهم} يعني رقيب عليهم.
{وما أنت عليهم} يا محمد، {بوكيل}، يعني بمسيطر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَالّذِينَ اتّخَذُوا" يا محمد من مشركي قومك مِنْ دُونِ اللّهِ آلهة يتولونها ويعبدونها. "اللّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ" يُحْصِي عليهم أفعالهم، ويحفظ أعمالهم، ليجازيهم بها يوم القيامة جزاءهم.
"وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ": ولست أنت يا محمد بالوكيل عليهم بحفظ أعمالهم؛ وإنما أنت منذر، فبلغهم ما أرسلت به إليهم، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والذين اتخذوا من دونه أولياء} يحتمل قوله: {أولياء} الأصنام التي عبدوها دون الله كقوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} [آل عمران: 28] وقوله تعالى: {لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء} [الممتحنة: 1].
{الله حفيظ عليهم} يُخبر أنه لا عن غفلة وجهل منه يعملون ما يعملون، ولكنه حفيظ عليهم وعلى أعمالهم، لكنه يؤخر ذلك عنهم لحكمة.
{وما أنت عليهم بوكيل} يحتمل وجهين:
أحدهما: {وما أنت عليهم بوكيل} أي لا تؤاخذ أنت بمكانهم كقوله: {فإنما عليه ما حُمّل وعليكم ما حُمّلتم} [النور: 54].
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إنما قال (من دونه) لأن من اتخذ وليا بأمر الله لم يتخذه من دون الله.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المشركون اتخذوا الشياطين أولياءَ مِنْ دونه، وذلك بموافقتهم لها فيما توسوس به إليهم. وليس يخفى على الله أمرُهم، وسيعذبهم بما يستوجبونه.
وفي الإشارة: كلُّ مَنْ يعمل بمتابعة هواه ويترك لله حدَّاً أو ينقض له عهداً فهو يتخذ الشياطينَ أولياءَ، والله يعلمه، ولا يخفى عليه أمره وعلى الله حسابه.. ثم إن شاء عذَّبه، وإن شاء غَفَرَ له...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه آية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفار وإزالة عن النبي صلى الله عليه وسلم جميع الكلف سوى التبليغ فقط، لئلا يهتم بعدم إيمان قريش وغيرهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تبدو للضمير صورة هؤلاء المناكيد التعساء (وهم يتخذون من دون الله أولياء وأيديهم مما أمسكت خاوية، وليس هنالك إلا الهباء! تبدو للضمير صورتهم -في ضآلتهم وضآلة أوليائهم من دون الله. والله حفيظ عليهم. وهم في قبضته ضعاف صغار. فأما النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه، فهم معفون من التفكير في شأنهم والاحتفال بأمرهم، فقد كفاهم الله هذا الاهتمام.
ولا بد أن تستقر هذه الحقيقة في ضمائر المؤمنين لتهدأ وتطمئن من هذا الجانب في جميع الأحوال. سواء كان أولئك الذين يتخذون من دون الله أولياء أصحاب سلطان ظاهر في الأرض، أم كانوا من غير ذوي السلطان. تطمئن في الحالة الأولى لهوان شأن أصحاب السلطان الظاهر- مهما تجبروا -ما داموا لا يستمدون سلطانهم هذا من الله والله حفيظ عليهم؛ وهو من ورائهم محيط والكون كله مؤمن بربه من حولهم، وهم وحدهم المنحرفون كالنغمة النشاز في اللحن المتناسق! وتطمئن في الحالة الثانية من ناحية أن ليس على المؤمنين من وزر في تولي هؤلاء غير الله؛ فهم ليسوا بوكلاء على من ينحرفون من الخلق؛ وليس عليهم إلى النصح والبلاغ. والله هو الحفيظ على قلوب العباد. ومن ثم يسير المؤمنون في طريقهم. مطمئنين إلى أنه الطريق الموصول بوحي الله. وأن ليس عليهم من ضير في انحراف المنحرفين عن الطريق. كائنا ما يكون هذا الانحراف...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة معطوفة على جملة {له ما في السموات وما في الأرض} [الشورى: 4] بعد أن أفيد ما هو كالحجة على أن لله ما في السماوات وما في الأرض من قوله {وهو العليُ العظيم يكاد السموات} [الشورى: 4، 5] الآيتين. فالمعنى: قد نهضت حجة انفراده تعالى بالعزة والحكمة والعلوّ والعظمة وعلمها المؤمنون فاستغفرْت لهم الملائكة. وأما الذين لم يبصروا تلك الحجة وعميت عليهم الأدلة فلا تَهْتَمَّ بشأنهم فإن الله حَسْبُهم وما أنت عليهم بوكيل. فهذا تسكين لحزن الرّسول صلى الله عليه وسلم من أجل عدم إيمانهم بوحدانية الله تعالى.
وهذه مقدّمة لما سيأمر به الرّسول صلى الله عليه وسلم من الدعوة ابتداء من قوله: {وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى} [الشورى: 7] الآية، ثم قوله: {شَرع لكم من الدّين ما وصَّى به نوحاً} [الشورى: 13] الآيات، ثم قوله: {فلذلك فادع واستقم} [الشورى: 15]، وقوله: {قل لا أسألُكم عليه أجراً} [الشورى: 23] الآية.
{الذين اتخذوا من دونه أولياء} مبتدأ وجملة {الله حفيظ عليهم} خبر عن {الذين اتخذوا من دونه أولياء}.
والحفيظ: فعيل بمعنَى فاعل، أي حافظ، وتختلف معانيه ومرجعها إلى رعاية الشيء والعناية به: ويكثر أن يستعمل كناية عن مراقبة أحوال المرقوب وأعماله، وباختلاف معانيه تختلف تعديته بنفسه أو بحرف جرّ يناسب المعنى، وقد عُدّي هنا بحرف (على) كما يُعدّى الوكيل لأنه بمعناه.
والوكيل فعيل بمعنى مفعول وهو الموكولُ إليه عملٌ في شيء أو اقتضاءُ حق. يقال: وكله على كذا، ومنه الوكالة في التصرفات المالية والمخاصمة، ويكثر أن يستعمل كناية عن مراقبة أحوال الموكّل عليه وأعماله. وقد استعمل {حفيظ} و (وكيل) هنا في استعمالهما الكنائي عن مُتقارب المعنى فلذلك قد يفسر أهل اللّغة أحد هذين اللفظين بما يقرب من تفسير اللّفظ الآخر كتفسير المرادف بمرادفه، وذلك تسامحٌ. / فعلَى من يريد التفرقة بين اللّفظين أن يرجع بهما إلى أصل مادتي (حَفِظ) و (وكَل)، فمادة (حفظ) تقتضي قيام الحدث بفاعل وتعديته إلى مفعول، ومادة (وكَل) تقتضي قيام الحدث بفاعل وتعديته إلى مفعول وتجاوزه من ذلك المفعول إلى شيء آخر هو متعلق به، وبذلك كان فعل (حفظ) مفيداً بمجرد ذكر فاعله ومفعوله دون احتياج إلى متعلَّق آخر بخلاف فعل (وَكَلَ) فإفادته متوقفة على ذكرِ أو على تقديرِ ما يدل على شيء آخر زائد على المفعول ومن علائقه، فلذلك أوثر وصف {حفيظ} هنا بالإسناد إلى اسم الجلالة لأن الله جلّ عن أن يكلفه غيره حفظ شيء فهو فاعل الحفظ، وأوثر وصف (وكيل) بالإسناد إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم لأن المقصود أن الله لم يكلفه بأكثر من التبليغ، والمعنى: الله رقيب عليهم لا أنتَ وما أنت بموكل من الله على جبرهم على الإيمان.
وفي معناه قوله في آخر هذه السورة {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إنْ عليك إلا البلاغ} [الشورى: 48].
وأيضاً هي كالبيان لما في جملة {يكاد السموات يتفطرن} [الشورى: 5] لأنّ من أسباب مقاربة تفطرهن كثرة ما فيهن من الملائكة. ولولا أنّها أريد منها زيادة تقرير معنى جملة {وهو العلي العظيم} [الشورى: 4] لكانت جديرة بأن تفصل ولكن رُجح العطف لأجل الاهتمام بتقرير العلوّ والعظمة لله تعالى. وأما التبيين فيحصل بمجرد تعقيب جملة يكاد السماوات يتفطرن بها كما علمته آنفاً.