القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَتُعَلّمُونَ اللّهَ بِدِينِكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم : أتُعَلّمُونَ اللّهَ أيها القوم بدينكم ، يعني بطاعتكم ربكم وَاللّهُ يَعْلَمُ ما في السّمَوَاتِ ومَا فِي الأرْضِ يقول : والله الذي تعلّمونه أنكم مؤمنون ، عَلاّم جميع ما في السموات السبع والأرضين السبع ، لا يخفى عليه منه شيء ، فكيف تعلمونه بدينكم ، والذي أنتم عليه من الإيمان ، وهو لا يخفى عليه خافية ، في سماء ولا أرض ، فيخفى عليه ما أنتم عليه من الدين وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول : والله بكلّ ما كان ، وما هو كائن ، وبما يكون ذو علم . وإنما هذا تقدّم من الله إلى هؤلاء الأعراب بالنهي ، عن أن يكذّبوا ويقولوا غير الذي هم عليه في دينهم . يقول : الله محيط بكلّ شيء عالم به ، فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائر صدوركم ، فينالكم عقوبته ، فإنه لا يخفى عليه شيء .
أعيد فعل { قل } ليدل على أن المقول لهم هذا هم الأعراب الذين أمر أن يقول لهم { لم تؤمنوا } إلى آخره ، فأعيد لَمَّا طال الفصل بين القولين بالجمل المتتابعة ، فهذا متصل بقوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } اتصالَ البيان بالمبين ، ولذلك لم تعطف جملة الاستفهام .
وجملة { قل } معترضة بين الجملتين المبيِّنة والمبَّينة .
قيل : إنهم لمَّا سمعوا قوله تعالى : { قل لم تؤمنوا } الآية جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحلَفوا أنهم مؤمنون فنزل قوله : « قل أتعلمون الله بدينكم ولم يرو بسند معروف وإنما ذكره البغوي تفسيراً ولو كان كذلك لوبَّخهم الله على الأيمان الكاذبة كما وبَّخ المنافقين في سورة براءة ( 42 ) بقوله { وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يُهلكون أنفسهم } الآية . ولم أر ذلك بسند مقبول ، فهذه الآية مما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم .
والتعليم مبالغة في إيصال العلم إلى المعلَّم لأن صيغة التفعيل تقتضي قوة في حصول الفعل كالتفريق والتفسير ، يقال : أعْلَمَهُ وعلّمه كما يقال : أنباه ونَبَّأه . وهذا يفيد أنهم تكلفوا وتعسفوا في الاستدلال على خلوص إيمانهم ليقنعوا به الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أبلغهم أن الله نفى عنهم رسوخ الإيمان بمحاولة إقناعه تدل إلى محاولة إقناع الله بما يعلم خلافه .
وباء { بدينكم } زائدة لتأكيد لصوق الفعل بمفعوله كقوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } وقول النابغة :
لك الخيران وارتْ بك الأرض واحداً
والاستفهام في { أتعلمون الله بدينكم } مستعمل في التوبيخ وقد أيد التوبيخ بجملة الحال في قوله : { والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } .
وفي هذا تجهيل إذ حاولوا إخفاء باطنهم عن المطّلع على كل شيء .
وجملة { والله بكل شيء عليم } تذييل لأن { كل شيء } أعم من { ما في السماوات وما في الأرض } فإن الله يعلم صفاته ويعلم الموجودات التي هي أعلى من السماوات كالعرش .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم:"أتُعَلّمُونَ اللّهَ "أيها القوم بدينكم، يعني بطاعتكم ربكم، "وَاللّهُ يَعْلَمُ ما في السّمَوَاتِ ومَا فِي الأرْضِ" يقول: والله الذي تعلّمونه أنكم مؤمنون، عَلاّم جميع ما في السموات السبع والأرضين السبع، لا يخفى عليه منه شيء، فكيف تعلمونه بدينكم، والذي أنتم عليه من الإيمان، وهو لا يخفى عليه خافية، في سماء ولا أرض، فيخفى عليه ما أنتم عليه من الدين. "وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" يقول: والله بكلّ ما كان، وما هو كائن، وبما يكون ذو علم. وإنما هذا تقدّم من الله إلى هؤلاء الأعراب بالنهي، عن أن يكذبوا ويقولوا غير الذي هم عليه في دينهم. يقول: الله محيط بكلّ شيء عالم به، فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائر صدوركم، فينالكم عقوبته، فإنه لا يخفى عليه شيء.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فأخبر أنه يعلم ما في قلوبهم من الإيمان والشك والخلاف، كأنهم حين قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: {لم تؤمنوا} فلجّوا في ذلك، وقالوا: بل آمنا؛ ظنوا أنه إنما قال ذلك من ذات نفسه، فقال عند ذلك: {قل أتُعلّمون الله بدينكم}؟ يُخبر أن الذي أنبأني، وأخبرني بذلك، هو الذي يعلم غيب ما في السماوات وما في الأرض، وهو بكل شيء مما في القلوب من الصدق وغيره عليم.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
والتعليم ها هنا بمعنى الإعلام ولذلك قال: {بدينكم} وأدخل الباء فيه، يقول: أتخبرون الله بدينكم الذي أنتم عليه، {والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم} أي: لا يحتاج إلى إخباركم.
... وفيه إشارة إلى أن الدين ينبغي أن يكون لله وأنتم أظهرتموه لنا لا لله، فلا يقبل منكم ذلك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قل} أي لهؤلاء الأعراب مجهلاً لهم- مبكتاً: {أتعلمون} أي- أتخبرون إخباراً عظيماً-... فلما قالوا آمنا كان ذلك تكريراً، فكان في صورة التعليم، فبكتهم بذلك {الله} أي الملك الأعظم المحيط قدرة وعلماً {بدينكم} فلذلك تقولون: آمنا، ففي ذلك نوع بشرى لهم لأنه أوجد لهم ديناً وأضافه إليهم... {والله} أي والحال أن الملك المحيط بكل شيء {يعلم ما في السماوات} كلها على عظمها وكثرة ما فيها ومن فيها. ولما كان في سياق الرد عليهم- والتبكيت لهم كان موضع التأكيد فقال: {وما في الأرض} كذلك. ولما كان المقام للتعميم، أظهر ولم يضمر لئلا يوهم الاختصاص بما ذكر من الخلق فقال: {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {بكل شيء} أي مما ذكر ومما لم يذكر {عليم}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والإنسان يدعي العلم، وهو لا يعلم نفسه، ولا ما يستقر فيها من مشاعر، ولا يدرك حقيقة نفسه ولا حقيقة مشاعره؛ فالعقل نفسه لا يعرف كيف يعمل، لأنه لا يملك مراقبة نفسه في أثناء عمله... (والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض).. علما حقيقيا. لا بظواهرها وآثارها. ولكن بحقائقها وماهياتها. وعلما شاملا محيطا غير محدود ولا موقوت. (والله بكل شيء عليم).. بهذا الإجمال الشامل المحيط...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أعيد فعل {قل} ليدل على أن المقول لهم هذا هم الأعراب الذين أمر أن يقول لهم {لم تؤمنوا} إلى آخره، فأعيد لَمَّا طال الفصل بين القولين بالجمل المتتابعة، فهذا متصل بقوله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} اتصالَ البيان بالمبين، ولذلك لم تعطف جملة الاستفهام.
وجملة {قل} معترضة بين الجملتين المبيِّنة والمبَّينة...
والتعليم مبالغة في إيصال العلم إلى المعلَّم لأن صيغة التفعيل تقتضي قوة في حصول الفعل كالتفريق والتفسير، يقال: أعْلَمَهُ وعلّمه كما يقال: أنباه ونَبَّأه. وهذا يفيد أنهم تكلفوا وتعسفوا في الاستدلال على خلوص إيمانهم ليقنعوا به الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أبلغهم أن الله نفى عنهم رسوخ الإيمان بمحاولة إقناعه تدل إلى محاولة إقناع الله بما يعلم خلافه.
وباء {بدينكم} زائدة لتأكيد لصوق الفعل بمفعوله كقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم}...
والاستفهام في {أتعلمون الله بدينكم} مستعمل في التوبيخ وقد أيد التوبيخ بجملة الحال في قوله: {والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض}.
وفي هذا تجهيل إذ حاولوا إخفاء باطنهم عن المطّلع على كل شيء.
وجملة {والله بكل شيء عليم} تذييل لأن {كل شيء} أعم من {ما في السماوات وما في الأرض} فإن الله يعلم صفاته ويعلم الموجودات التي هي أعلى من السماوات كالعرش.