القول في تأويل قوله تعالى : { فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمُ الْحَقّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقّ إِلاّ الضّلاَلُ فَأَنّىَ تُصْرَفُونَ } .
يقول تعالى ذكره لخلقه : أيها الناس ، فهذا الذي يفعل هذه الأفعال ، فيرزقكم من السماء والأرض ويملك السمع والأبصار ، ويخرج الحيّ من الميت والميت من الحيّ ، ويدبّر الأمر اللّهُ رَبّكُمُ الحَقّ لا شكّ فيه . فَمَاذا بَعْدَ الحَقّ إلاّ الضّلالُ يقول : فأيّ شيء سوى الحقّ إلا الضلال وهو الجور عن قصد السبيل . يقول : فإذا كان الحقّ هو ذا ، فادّعاؤكم غيره إلها ورَبّا هو الضلال والذهاب عن الحقّ لا شكّ فيه . فَأنّىَ تُصْرَفُونَ يقول : فأيّ وجه عن الهدى والحقّ تصرفون وسواهما تسلكون وأنتم مقرّون بأن الذي تصرفون عنه هو الحقّ .
الفاء للتفريع على الإنكار الذي في قوله : { أفلا تتقون } [ يونس : 31 ] ، فالمفرع من جملة المقول . واسم الإشارة عائد إلى اسم الجلالة للتنبيه على أن المشار إليه جدير بالحكم الذي سيذكر بعد اسم الإشارة مِن أجْل الأوصاف المتقدمة على اسم الإشارة وهي كونه الرازق ، الواهب الإدراك ، الخالق ، المدبر ، لأن اسم الإشارة قد جمعها . وأومأ إلى أن الحكم الذي يأتي بعده معلل بمجموعها . واسم الجلالة بيان لاسم الإشارة لزيادة الإيضاح تعريضاً بقوة خطئهم وضلالهم في الإلهية . و { ربكم } خبر . و { الحق } صفة له . وتقدم الوصف بالحق آنفاً في الآية مثل هذه .
والفاء في قوله : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } تفريع للاستفهام الإنكاري على الاستنتاج الواقع بعد الدليل ، فهو تفريع على تفريع وتقريع بعد تقريع .
و { ماذا } مركَّبٌ من ( ما ) الاستفهامية و ( ذا ) الذي هو اسم إشارة . وهو يقع بعد ( ما ) الاستفهامية كثيراً . وأحسن الوجوه أنه بعد الاستفهام مزيد لِمجرد التأكيد . ويعبر عن زيادته بأنه ملغى تجنباً من إلزام أن يكون الاسم مزيداً كما هنا . وقد يفيد معنى الموصولية كما تقدم في قوله تعالى : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } في سورة [ البقرة : 26 ] . وانظر ما يأتي عند قوله : { ماذا يستعجل منه المجرمون } في هذه [ السورة : 50 ] .
والاستفهام هنا إنكاري في معنى النفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء في قوله : { إلا الضلال } .
و { بعْدَ } هنا مستعملة في معنى ( غير ) باعتبار أن المغاير يحصل إثر مغايره وعند انتفائه . فالمعنى : ما الذي يكون إثر انتفاء الحق .
ولما كان الاستفهام ليس على حقيقته لأنه لا تردد في المستفهَم عنه تعيّن أنه إنكار وإبطال فلذا وقع الاستثناء منه بقوله : { إلا الضلال } . فالمعنى لا يكون إثر انتفاء الحق إلا الضلال إذ لا واسطة بينهما . فلما كان الله هو الرب الحق تعين أن غيره مما نسبت إليه الإلهية باطل . وعبر عن الباطل بالضلال لأن الضلال أشنع أنواع الباطل .
والفاء في { فأنَّى تصرفون } للتفريع أيضاً ، أي لتفريع التصريح بالتوبيخ على الإنكار والإبطال .
و { أنَّى } استفهام عن المكان ، أي إلى مكان تَصرفكم عقولكم . وهو مكان اعتباري ، أي أنكم في ضلال وعماية كمن ضل عن الطّريق ولا يجد إلا من ينعت له طريقاً غير موصلة فهو يُصرف من ضلال إلى ضلال . قال ابن عطية : وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوق كل تفْسير براعة وإيجازاً ووضوحاً .
وقد اشتملت هذه الآيات على تسع فاءات من قوله : { فسيقولون الله } : الأولى جوابية ، والثانية فصيحة ، والبواقي تفريعية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.