الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَمَاذَا بَعۡدَ ٱلۡحَقِّ إِلَّا ٱلضَّلَٰلُۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ} (32)

فيه ثمان مسائل :

الأولى - قوله تعالى : " فذلكم الله ربكم الحق " أي هذا الذي يفعل هذه الأشياء هو ربكم الحق ، لا ما أشركتم معه . " فماذا بعد الحق " " ذا " صلة أي ما بعد عبادة الإله الحق إذا تركت عبادته إلا الضلال . وقال بعض المتقدمين : ظاهر هذه الآية يدل على أن ما بعد الله هو الضلال ؛ لأن أولها " فذلكم الله ربكم الحق " وآخرها " فماذا بعد الحق إلا الضلال " فهذا في الإيمان والكفر ، ليس في الأعمال . وقال بعضهم : إن الكفر تغطية الحق ، وكل ما كان غير الحق جرى هذا المجرى ، فالحرام ضلال والمباح هدى ، فإن الله هو المبيح والمحرم . والصحيح الأول ؛ لأن قبل " قل من يرزقكم من السماء والأرض " ثم قال " فذلكم الله ربكم الحق " أي هذا الذي رزقكم ، وهذا كله فعله هو . " ربكم الحق " أي الذي تحق له الألوهية ويستوجب العبادة ، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق .

الثانية - قال علماؤنا : حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى ، وكذلك هو الأمر في نظائرها ، وهي مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد ؛ لأن الكلام فيها إنما هو في تعديد وجود ذات كيف هي ، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا{[8474]} " [ المائدة : 48 ] ، وقوله عليه السلام : ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات ) . والكلام في الفروع إنما هو في أحكام طارئة على وجود ذات متقررة لا يختلف فيها وإنما يختلف في الأحكام المتعلقة بها .

الثالثة - ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال : ( اللهم لك الحمد ) الحديث . وفيه ( أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق ) الحديث . فقوله : ( أنت الحق ) أي الواجب الوجود ، وأصله من حق الشيء أي ثبت ووجب . وهذا الوصف لله تعالى بالحقيقة إذ وجوده لنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم ، وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم ، ويجوز عليه لحاق العدم ، ووجوده من موجده لا من نفسه . وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر ، كلمة لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وإليه الإشارة بقوله تعالى : " كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون{[8475]} " [ القصص : 88 ] .

الرابعة - مقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعا ، كما في هذه الآية . وكذلك أيضا مقابلة الحق بالباطل عرف لغة وشرعا ، قال الله تعالى : " ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل{[8476]} " [ لقمان : 30 ] . والضلال حقيقته الذهاب عن الحق ، أخذ من ضلال الطريق ، وهو العدول عن سمته . قال ابن عرفة : الضلالة عند العرب سلوك غير سبيل القصد ، يقال : ضل عن الطريق وأضل الشيء إذا أضاعه . وخص في الشرع بالعبارة{[8477]} في العدول{[8478]} عن السداد في الاعتقاد دون الأعمال ، ومن غريب أمره أنه يعبر به عن عدم المعرفة بالحق سبحانه إذا قابله غفلة ولم يقترن بعدمه جهل أو شك ، وعليه حمل العلماء قوله تعالى : " ووجدك ضالا فهدى{[8479]} " [ الضحى : 7 ] أي غافلا ، في أحد التأويلات ، يحققه قوله تعالى : " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان{[8480]} " [ الشورى : 52 ] .

الخامسة - روى عبد الله بن عبد الحكم وأشهب عن مالك في قوله تعالى : " فماذا بعه الحق إلا الضلال " قال : اللعب بالشطرنج والنرد من الضلال . وروى يونس عن ابن وهب أنه سئل عن الرجل يلعب في بيته مع امرأته بأربع عشرة ، فقال مالك : ما يعجبني ! وليس من شأن المؤمنين ، يقول الله تعالى : " فماذا بعد الحق إلا الضلال " . وروى يونس عن أشهب قال : سئل - يعني مالكا - عن اللعب بالشطرنج فقال : لا خير فيه ، وليس بشيء وهو من الباطل ، واللعب كله من الباطل ، وإنه لينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب عن الباطل . وقال الزهري لما سئل عن الشطرنج : هي من الباطل ولا أحبها .

السادسة - اختلف العلماء في جواز اللعب بالشطرنج وغيره إذا لم يكن على وجه القمار ، فتحصيل مذهب مالك وجمهور الفقهاء في الشطرنج أن من لم يقامر بها ولعب مع أهله في بيته مستترا به مرة في الشهر أو العام ، لا يطلع عليه ولا يعلم به أنه معفو عنه غير محرم عليه ولا مكروه له ، وأنه إن تخلع{[8481]} به واشتهر فيه سقطت مروءته وعدالته وردت شهادته . وأما الشافعي فلا تسقط في مذهب أصحابه شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج ، إذا كان عدلا في جميع أصحابه ، ولم يظهر منه سفه ولا ريبة ولا كبيرة إلا أن يلعب به قمارا ، فإن لعب بها قمارا وكان بذلك معروفا سقطت عدالته وسفه نفسه لأكله المال بالباطل . وقال أبو حنيفة : يكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكل اللهو ، فإن لم تظهر من اللاعب بها كبيرة وكانت محاسنه أكثر من مساويه قبلت شهادته عندهم . قال ابن العربي : قالت الشافعية إن الشطرنج يخالف النرد لأن فيه إكداد الفهم واستعمال القريحة . والنرد قمار غرر لا يعلم ما يخرج له فيه كالاستقسام بالأزلام .

السابعة - قال علماؤنا : النرد قطع مملوءة من خشب البقس ومن عظم الفيل ، وكذا هو الشطرنج إذ هو أخوه غذي بلبانه . والنرد هو الذي يعرف بالباطل{[8482]} ، ويعرف بالكعاب ويعرف في الجاهلية أيضا بالأرن{[8483]} ويعرف أيضا بالنردشير . وفي صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه ) . قال علماؤنا : ومعنى هذا أي هو كمن غمس يده في لحم الخنزير يهيئه لأن يأكله ، وهذا الفعل في الخنزير حرام لا يجوز ، يبينه قوله تعالى : ( من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله ) رواه مالك وغيره من حديث أبي موسى الأشعري وهو حديث صحيح ، وهو يحرم اللعب بالنرد جملة واحدة ، وكذلك الشطرنج ، لم يستثن وقتا من وقت ولا حالا من حال ، وأخبر أن فاعل ذلك عاص لله ورسوله ، إلا أنه يحتمل أن يكون المراد باللعب بالنرد المنهي عنه أن يكون على وجه القمار ؛ لما روي من إجازة اللعب بالشطرنج عن التابعين على غير قمار . وحمل ذلك على العموم قمارا وغير قمار أولى وأحوط إن شاء الله . قال أبو عبد الله الحليمي في كتاب منهاج الدين : ومما جاء في الشطرنج حديث يروى فيه كما يروى في النرد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من لعب بالشطرنج فقد عصى الله ورسوله ) . وعن علي رضي الله عنه أنه مر على مجلس من مجالس{[8484]} بني تميم وهم يلعبون بالشطرنج فوقف عليهم فقال : ( أما والله لغير هذا خلقتم ! أما والله لولا أن تكون سنة لضربت به وجوهكم ) . وعنه رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير من أن يمسها . وسئل ابن عمر عن الشطرنج فقال هي شر من النرد . وقال أبو موسى الأشعري : لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ . وسئل أبو جعفر عن الشطرنج فقال : دعونا من هذه المجوسية . وفي حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( وأن من لعب بالنرد والشطرنج والجوز والكعاب مقته الله ، ومن جلس إلى من يلعب بالنرد والشطرنج لينظر إليهم محيت عنه حسناته كلها وصار ممن مقته الله ) . وهذه الآثار كلها تدل على تحريم اللعب بها بلا قمار ، والله اعلم .

وقد ذكرنا في " المائدة " بيان تحريمها{[8485]} وأنها كالخمر في التحريم لاقترانها به ، والله أعلم .

قال ابن العربي في قبسه : وقد جوزه الشافعي ، وانتهى حال بعضهم إلى أن يقول : هو مندوب إليه ، حتى اتخذوه في المدرسة ، فإذا أعيا الطالب من القراءة لعب به في المسجد . وأسندوا إلى قوم من الصحابة والتابعين أنهم لعبوا بها ، وما كان ذلك قط ! وتالله ما مستها يد تقي . ويقولون : إنها تشحذ الذهن ، والعيان يكذبهم ، ما تبحر فيها قط رجل له ذهن . سمعت الإمام أبا الفضل عطاء المقدسي يقول بالمسجد الأقصى في المناظرة : إنها تعلم الحرب . فقال له الطرطوشي : بل تفسد تدبير الحرب ؛ لأن الحرب المقصود منها الملك واغتياله ، وفي الشطرنج تقول : شاه إياك : الملك نحه عن طريقي ، فاستضحك الحاضرين . وتارة شدد فيها مالك وحرمها وقال فيها : " فماذا بعد الحق إلا الضلال " وتارة استهان بالقليل منها والأهون ، والقول الأول أصح والله أعلم . فإن قال قائل : روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن الشطرنج فقال : وما الشطرنج ؟ فقيل له : إن امرأة كان لها ابن وكان ملكا فأصيب في حرب دون أصحابه ، فقالت : كيف يكون هذا أرونيه عيانا ، فعمل لها الشطرنج ، فلما رأته تسلت بذلك . ووصفوا الشطرنج لعمر رضي الله عنه فقال : لا بأس بما كان من آلة الحرب . قيل له : هذا لا حجة فيه لأنه لم يقل لا بأس بالشطرنج وإنما قال لا بأس بما كان من آلة الحرب . وإنما قال هذا لأنه شبه عليه أن اللعب بالشطرنج مما يستعان به على معرفة أسباب الحرب ، فلما قيل له ذلك ولم يحط به علمه قال : لا بأس بما كان من آلة الحرب ، إن كان كما تقولون فلا بأس به ، وكذلك من روى عنه من الصحابة أنه لم ينه عنه ، فإن ذلك محمول منه على أنه ظن أن ذلك ليس يتلهى به ، وإنما يراد به التسبب إلى علم القتال والمضاربة فيه ، أو على أن الخبر المسند لم يبلغهم . قال الحليمي : وإذا صح الخبر فلا حجة لأحد معه ، وإنما الحجة فيه على الكافة .

الثامنة - ذكر ابن وهب بإسناده أن عبد الله بن عمر مر بغلمان يلعبون بالكجّة ، وهي حفر فيها حصى يلعبون بها ، قال : فسدها ابن عمر ونهاهم عنها . وذكر الهروي في باب ( الكاف مع الجيم ) في حديث ابن عباس : في كل شيء قمار حتى في لعب الصبيان بالكجة . قال ابن الأعرابي : هو أن يأخذ الصبي خرقة فيدورها كأنها كرة ، ثم يتقامرون بها . وكج إذا لعب بالكجة .

قوله تعالى : " فأنى تصرفون " أي كيف تصرفون عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يحيي ولا يميت .


[8474]:راجع ج 6 ص 259
[8475]:راجع ج 13 ص 322.
[8476]:راجع ج 12 ص 91.
[8477]:في ب و ع و هـ و ى: بالعبادة.
[8478]:من ب و ع و هـ و ى.
[8479]:راجع ج 20 ص 96.
[8480]:راجع ج 16 ص 54.
[8481]:تخلع في الشراب: انهمك فيه ولازمه ليلا ونهارا.
[8482]:في ب و ع و هـ و ى: الطبل.
[8483]:هكذا في ع و ى و هـ: وفي ب: لم نجد في كتب الشطرنج ولا المعاجم ما يكشف الغمة.
[8484]:من ع
[8485]:راجع ج 6 ص 291.