اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَمَاذَا بَعۡدَ ٱلۡحَقِّ إِلَّا ٱلضَّلَٰلُۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ} (32)

قوله : { فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ } الذي يفعل هذه الأشياء ، هو ربُّكم الحقُّ .

قوله : { فَمَاذَا بَعْدَ } يجوز أن يكون " مَاذَا " كلُّه اسماً واحداً ؛ لتركُّبهما ، وغُلِّب الاستفهامُ على اسم الإشارة ، وصار معنى الاستفهام هنا النَّفْيَ ، ولذلك أوجب بعده ب " إلاَّ " ، ويجوز أن يكون " ذَا " موصولاً بمعنى : " الَّذي " ، والاستفهام أيضاً بمعنى : النَّفْي ؛ والتقدير : ما الذي بعد الحقِّ إلاَّ الضَّلال ؟ .

وإذا ثبت أنَّ الله هو الحقُّ ، وجب أن يكون ما سواه ضلالاً ، أي : باطلاً ؛ لأنَّ النَّقيضين يمتنع أن يكونا حقَّين ، وأن يكونا باطلين ، فإذا كان أحدهما حقّاً ، وجب كون ما سواه باطلاً ، ثم قال { فأنى تُصْرَفُونَ } أي : كيف تَعْدلُون عن عبادته ، وأنتُم مُقِرُّون بذلك .

قال الجُبَّائي : دلَّت هذه الآية على بطلان قول المُجبِّرة : أنَّه - تعالى - يصرف الكُفَّار عن الإيمان ؛ لأنَّه لو كان كذلك ، لما جاز أن يقول { فأنى تُصْرَفُونَ } كما لا يقول إذا عمي أحدهم إني عميتُ ، وسيأتي جوابه .

فصل

المعنى : أنَّ الذي يفعل هذه الأشياء ، هو ربُّكم الحقُّ ، لا ما أشركتُم معه .

قال بعضُ المتقدِّمين : ظاهرُ هذه الآية ، يدلُّ على أنَّ ما بعد الله ، هو الضلالُ ؛ لأنَّ أوَّلها { فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق } ، وآخرها { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } فهذا في الإيمان ، والكفر ليس في الأعمال ، وقال بعضهم : إنَّ الكفر تغطية الحقِّ ، وكل ما كان غير الحقِّ ، جرى هذا المجرى ، فالحرام ضلالٌ ، والمُبَاحُ هُدًى ، فإن الله هو المبيحُ ، والمحرِّم .

فصل

قال القرطبي : " رُوي عن مالك ، في قوله تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } قال اللَّعبُ بالشطرنج والنَّرد من الضلال ، وسئل مالكٌ : عن الرَّجُل يلعبُ في بيته ، مع امرأته بأربعة عشرة ، فقال : ما يُعْجِبني ، ليس من شأن المُؤمن ، قال - تعالى - : { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } ، وسئل مالكٌ : عن اللَّعبِ بالشطرنج ، فقال : لا خَيْرَ فيه وهو من الباطل ، واللَّعبُ كلُّه من الباطل " .

وقال الشَّافعيُّ : " لاعب الشطرنج ، وغيره - إذا لم يكن على وجه القمار - لا تُرَدّ شهادتهُ إذا كان عدْلاً ، ولمْ تظهرْ منه ريبةٌ ، ولا كبيرةٌ ، فإن لعب بها قُماراً ، وكان معروفاً بذلك ، سقطت عدالتُهُ ، لأكله المال بالباطل ، وقال أبُو حنيفة : " يُكرَه اللعب بالشطرنج ، والنَّرد ، والأربعة عشر ، وكل اللَّهْو فإن لم تظهر من اللاَّعب بها كبيرةٌ ، وكانت مساوئه قليلة ، قُبلتْ شهادته " .

قال ابن العربي : " قال الشَّافعية : إنَّ الشطرنج يخالف النَّرد ، لأنَّ فيه إكدار الفكر ، واستعمال القريحة ، وأمَّا النَّرْد : فلا يعلم ما يخرجُ له ، فهو كالاستقسام بالأزلام " . وأنَّ النَّرد هو الذي يعرفُ بالباطل ، ويعرف في الجاهليَّة بالأزلام ، ويعرف أيضاً بالنَّردشير ، وروي أنَّ ابن عمر ، مرَّ بغلمان يلعبُون بالكجَّة ، وهي حُفَر فيها حصى ، يلعبُون بها ، فسدَّها ابنُ عمر ، ونهاهم عنها{[18447]} .

ذكر الهروي في باب الكاف مع الجيم ، في حديث ابن عبَّاس : في كل شيءٍ قمار ، حتى في لعب الصبيان بالكُجَّةِ ، وقال ابن الأعرابي : " الكجَّة هي : أنْ يأخذ الصبيُّ خرقةً ، فيدورها كأنَّها كُرةً ثم يتقامرُون بها " .


[18447]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (8/217).