ثم ذكر - سبحانه - ما يدل على رفعة منزلة نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } . أى : ولو شئنا لبعثنا فى زمنك - أيها الرسول الكريم - فى كل قرية من القرى نذيرا ينذر أهلها بسوء عاقبة الكفر والجحود ، ويكون عونا لك على تحمل أعباء الرسالة التى أرسلناك بها . . . ولكنَّا لم نشأ ذلك تكريما لك وتعظيما لقدرك ، حيث خصصناك بعموم الرسالة لجميع الناس . وما دام الأمر كذلك " فلا تطع الكافرين " فيما يريدونه منك من أمور باطلة فاسدة " وجاهدهم به " أى : بهذا القرآن ، عن طريق قراءته والعمل بما فيه ، وبيان ما اشتمل عليه من دلائل وبراهين على صحة دعوتك .
وقوله - تعالى - : { جِهَاداً كَبيراً } مؤكد لما قبله . أى : جاهدهم بالقرآن جهادا كبيرا مصحوبا بالإغلاظ عليهم تارة ، وبإبطال شبهاتهم وأراجيفهم تارة أخرى .
قال - تعالى - : { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير }
يقول تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا } يدعوهم إلى الله عز وجل ، ولكنا خصصناك - يا محمد - بالبعثة إلى جميع أهل الأرض ، وأمرناك أن تبلغ الناس هذا القرآن ، { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] { وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } [ الأنعام : 92 ] ، { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] . وفي الصحيحين : " بعثت إلى الأحمر والأسود " وفيهما : " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " ؛ ولهذا قال : { فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نّذِيراً * فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً } .
يقول تعالى ذكره : ولو شئنا يا محمد لأرسلنا في كلّ مصر ومدينة نذيرا ينذرهم بأْسَنا على كفرهم بنا ، فيخفّ عنك كثير من أعباء ما حملناك منه ، ويسقط عنك بذلك مؤنة عظيمة ، ولكنا حملناك ثقل نذارة جميع القرى ، لتستوجب بصبرك عليه إن صبرت ما أعمدّ الله لك من الكرامة عنده ، والمنازل الرفيعة قِبَله ، فلا تطع الكافرين فيما يدعونك إليه من أن تعبد آلهتهم ، فنذيقك ضعف الحياة وضعف الممات ، ولكن جاهدهم بهذا القرآن جهادا كبيرا ، حتى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله ، ويدينوا به ويذعنوا للعمل بجميعه طوعا وكرها . وبنحو الذي قلنا في قوله : وَجاهِدْهُمْ بِهِ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : قوله فَلا تُطِعِ الكافِرِينَ وَجاهِدْهِمْ بِهِ قال : بالقرآن . وقال آخرون في ذلك بما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهادا كَبِيرا قال : الإسلام . وقرأ : وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وقرأ : وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وقال : هذا الجهاد الكبير .
جُملة اعتراض بين ذكر دلائل تفرد الله بالخَلق وذكر منّته على الخَلق . ومناسبة موقع هذه الجملة وتفريعِها بموقع الآية التي قبلها خفيَّة . وقال ابن عطية في قوله { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً } : اقتضاب يدل عليه ما ذكر . تقديره : ولكنّا أفردناك بالنذارة وحمَّلْناك { فلا تطع الكافرين } اه .
فإن كان عنى بقوله : اقتضابٌ ، معنى الاقتضاب الاصطلاحي بين علماء الأدب والبيان ، وهو عدم مراعاة المناسبة بين الكلام المنتقَل منه والكلام المنتقَل إليه ، كان عدولاً عن التزام تطلب المناسبة بين هذه الآية والآية التي قبلها ، وليس الخلوّ عن المناسبة ببِدْع فقد قال صاحب « تلخيص المفتاح » « وقد يُنقل منه ( أي مما شبِّب به الكلام ) إلى ما لا يلائمه ( أي لا يناسب المنتقل منه ) ويسمى الاقتضابَ وهو مذهب العرب ومن يليهم من المُخَضْرمين » الخ . وإذا كان ابن عطية عنى بالاقتضاب معنى القطع ( أي الحذف من الكلام ) أي إيجاز الحذف كما يشعر به قوله « يدل عليه ما ذُكر تقديره إلخ » ، كأن لم يعرج على اتصال هذه الآية بالتي قبلها .
وفي « الكشاف » : « ولو شئنا لخففنا عنك أعباء نِذارة جميع القرى ولبعثنا في كل قرية نبيئاً يُنذرها ، وإنما قصرْنا الأمر عليك وعظَّمناك على سائر الرسل ( أي بعموم الدعوة ) فقابِل ذلك بالتصبر » اه . وقد قال الطِّيبي : « ومدار السورة على كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الناس كافة ولذلك افتتحت بما يُثبت عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس بقوله تعالى : { لِيكونَ للعالمين نذيراً } [ الفرقان : 1 ] .
وليس في كلام « الكشاف » والطيبي إلاّ بيانُ مناسبة الآية لِمهمّ أغراض السورة دون بيان مناسبتها للتي قبلها .
والذي أختاره أن هذه الآية متصلة بقوله تعالى : { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملةً واحدة } [ الفرقان : 32 ] الآية ، فبعد أن بيّن إبطال طعنهم فقال : { كذلك لِنُثَبِّتَ به فؤادك } [ الفرقان : 32 ] انتقل إلى تنظير القرآن بالكتاب الذي أوتيه موسى عليه السلام وكيف استأصل الله من كذبوه ، ثم استطرد بذكر أمم كذبوا رسلهم ، ثم انتقل إلى استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم وأشار إلى تحَرج النبي صلى الله عليه وسلم من إعراض قومه عن دعوته بقوله : { أرأيت مَن اتخذ إلههُ هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً } [ الفرقان : 43 ] .
وتسلسل الكلام بضرب المَثَل بمَدّ الظل وقبضِه ، وبحال اللّيل والنّهار ، وبإرسال الرياح ، أمارة على رحمة غيثه الذي تحيا به الموات حتى انتهى إلى قوله : { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً } ويؤيد ما ذكرنا اشتمال التفريع على ضمير القرآن في قوله { وجاهدهم به } .
ومما يزيد هذه الآية اتصالاً بقوله تعالى : { وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] أن في بعث نذير إلى كل قرية ما هو أشدّ من تنزيل القرآن مُجَزَّأً ؛ فلو بعَث الله في كل قرية نذيراً لقال الذين كفروا : لولا أرسل رسولٌ واحد إلى الناس جميعاً فإن مطاعنهم لا تقف عند حد كما قال تعالى : { ولو جعلناه قرآنا أعجمياً لقالوا لولا فُصِّلت آياتُه أأعجمي وعَربي } في سورة حم فصلت ( 44 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.