{ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ } أى : إنه وحده هو الذى يخلق الخلق أولا فى الدنيا ، ثم يعيدهم إلى الحياة بعد موتهم للحساب والجزاء ، وهو - سبحانه - وحده الذى يبدئ البطش بالكفار فى الدنيا ثم يعيده عليهم فى الآخرة بصورة أشد وأبقى .
وحذف - سبحانه - المفعول فى الفعلين ، لقصد العموم ، ليشمل كل ما من شأنه أن يبدأ وأن يعاد من الخلق أو من العذاب أو من غيرهما .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعّالٌ لّمَا يُرِيدُ * هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } .
اختلف أهل التأويل في معنى قوله : إنّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ فقال بعضهم : معنى ذلك : إن الله أبدى خلقه ، فهو يبتدىء ، بمعنى : يحدث خلقه ابتداء ، ثم يميتهم ، ثم يعيدهم أحياء بعد مماتهم ، كهيئتهم . قبل مماتهم . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يُبْدِىءُ ويُعِيدُ يعني : الخلق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ قال : يُبدىء الخلق حين خلقه ، ويعيده يوم القيامة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنه هو يبدىء العذاب ويعيده . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس إنّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ قال : يبدىء العذاب ويعيده .
وأوليَ التأويلين في ذلك عندي بالصواب ، وأشبههما بظاهر ما دلّ عليه التنزيل ، القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ، وهو أنه يُبدىء العذاب لأهل الكفر به ويعيد ، كما قال جلّ ثناؤه : فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنّمَ ولَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ في الدنيا ، فأبدأ ذلك لهم في الدنيا ، وهو يعيده لهم في الاَخرة .
وإنما قلت : هذا أولى التأويلين بالصواب ، لأن الله أتبع ذلك قوله إنّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ فكان للبيان عن معنى شدّة بطشه الذي قد ذكره قبله ، أشبه به بالبيان عما لم يجر له ذكر ومما يؤيد ما قلنا من ذلك وضوحا وصحة ، قوله : وَهُوَ الْغَفُورُ الوَدُودُ فبين ذلك عن أن الذي قبله من ذكر خبره عن عذابه وشدّة عقابه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى قوله:"إنّهُ هُوَ يُبْدئ وَيُعِيدُ"؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: إن الله أبدى خلقه، فهو يبتدئ، بمعنى: يحدث خلقه ابتداء، ثم يميتهم، ثم يعيدهم أحياء بعد مماتهم كهيئتهم قبل مماتهم...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنه هو يبدئ العذاب ويعيده...
وأوليَ التأويلين في ذلك عندي بالصواب، وأشبههما بظاهر ما دلّ عليه التنزيل... هو أنه يُبدئ العذاب لأهل الكفر به ويعيد، كما قال جلّ ثناؤه: "فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنّمَ ولَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ" في الدنيا، فأبدأ ذلك لهم في الدنيا، وهو يعيده لهم في الآخرة.
وإنما قلت: هذا أولى التأويلين بالصواب، لأن الله أتبع ذلك قوله: "إنّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ" فكان للبيان عن معنى شدّة بطشه الذي قد ذكره قبله، أشبه به بالبيان عما لم يجر له ذكر، ومما يؤيد ما قلنا من ذلك وضوحا وصحة، قوله: "وَهُوَ الْغَفُورُ الوَدُودُ" فبين ذلك عن أن الذي قبله من ذكر خبره عن عذابه وشدّة عقابه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي يبدئ البطش ويعيده. يعني: يبطش بهم في الدنيا وفي الآخرة. أو دل باقتداره على الإبداء والإِعادة على شدة بطشه، وأوعد الكفرة بأنه يعيدهم كما أبدأهم ليبطش بهم إذ لم يشكروا نعمة الإبداء وكذبوا بالإعادة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقال ابن عباس ما معناه: إن ذلك عام في جميع الأشياء، فهي عبارة عن أنه يفعل كل شيء إنه {يبدئ ويعيد} كلما يعاد، وهذان قسمان مستوفيان جميع الأشياء،...
ثم إن هذا القادر لا يكون إمهاله لأجل الإهمال، لكن لأجل أنه حكيم إما بحكم المشيئة أو بحكم المصلحة، وتأخير هذا الأمر إلى يوم القيامة، فلهذا قال: {إنه هو يبدئ ويعيد} أي إنه يخلق خلقه ثم يفنيهم ثم يعيدهم أحياء ليجازيهم في القيامة، فدل الإمهال لهذا السبب لا لأجل الإهمال، قال ابن عباس: إن أهل جهنم تأكلهم النار حتى يصيروا فحما ثم يعيدهم خلقا جديدا، فذاك هو المراد من قوله: {إنه هو يبدئ ويعيد}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والبدء والإعادة وإن اتجه معناهما الكلي إلى النشأة الأولى والنشأة الآخرة.. إلا أنهما حدثان دائبان في كل لحظة من ليل أو نهار. ففي كل لحظة بدء وإنشاء، وفي كل لحظة إعادة لما بلي ومات. والكون كله في تجدد مستمر.. وفي بلى مستمر.. وفي ظل هذه الحركة الدائبة الشاملة من البدء والإعادة يبدو حادث الأخدود ونتائجه الظاهرة مسألة عابرة في واقع الأمر وحقيقة التقدير. فهو بدء لإعادة. أو إعادة لبدء. في هذه الحركة الدائبة الدائرة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: أن الله يبطش بهم في البَدْء والعَوْد، أي في الدنيا والآخرة. وتَصلح لأن تكون تعليلاً لجملة: {إن بطش ربك لشديد} [البروج: 12] لأن الذي يُبدِئ ويعيد قادر على إيقاع البطش الشديد في الدنيا وهو الإِبداء، وفي الآخرة وهو إعادة البطش. وتصلح لأن تكون إدماجاً للاستدلال على إمكان البعث أي أن الله يُبدِئ الخلقَ ثم يعيده فيكون كقوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27]. والبطش: الأخذ بعنف وشدة ويستعار للعقاب المؤلم الشديد كما هنا. و {يبُدىء}: مرادف يَبْدَأ، يقال: بَدَأ وأبْدَأ. فليست همزة أبدأ للتعدية. وحُذف مفعولا الفعلين لقصد عموم تعلق الفعلين بكل ما يقع ابتداءً، ويعادُ بعد ذلك فشمل بَدأ الخلق وإعادتَه وهو البعث، وشمَل البطشَ الأول في الدنيا والبطش في الآخرة، وشمل إيجاد الأجيال وأخلافها بعد هلاك أوائلها. وفي هذه الاعتبارات من التهديد للمشركين محامل كثيرة. وضمير الفصل في قوله: {هو يبدئ} للتقوِّي، أي لتحقيق الخبر ولا موقع للقصر هنا. إذ ليس في المقام ردّ على من يدّعي أن غير الله يبدئ ويعيد...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولا تظنوا بأن القيامة أمر خيالي، أو إنّ المعاد من الأمور التي يشك في صحة تحققها، بل: (إنّه هو يُبدئ ويعيد). «البطش»: تناول الشيء بصولة وقهر، وباعتباره مقدّمة للعقاب، فقد استعمل بمعنى العقاب والمجازاة. «ربّك»: تسلية للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتأكيد دعم اللّه اللامحدود له. والجدير بالملاحظة، إنّ الآية تضمّنت جملة تأكيدات، لتبيان صرامة التهديد الإلهي بجدّية وقطع. ف «البطش» يحمل معنى الشدّة المؤكّدة، والجملة الاسمية عادةً ما تأتي للتأكيد، ووصف البطش بأنّه «شديد»، وكذا وجود «إن»، ووجود لام التأكيد في «لشديد»، هذا بالإضافة إلى التأكيد المتضمّن في قوله تعالى: (إنّه يبدئ ويعيد) كدليل إجمالي على المعاد...