ثم ختم - سبحانه - السورة بقوله : { إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى . صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى } أى : إن هذا الذى ذكرناه من فلاح من تزكى ، ومن إيثاركم الحياة الدنيا على الآخرة ، لكائن وثابت ومذكور فى الصحف الأولى ، التى هى صحف إبراهيم وموسى ، التى أنزلها - سبحانه - على هذين النبيين الكريمين ، ليعلما الناس ما اشتملت عليه من آداب وأحكام ومواعظ . وفى إبهام هذه الصحف ، ووصفها بالقدم ، ثم بيان أنها لنبيين كريمين من أولى العزم من الرسل ، تنويه بشأنها ، وإعلاء من قدرها .
وفي الختام تجيء الإشارة إلى قدم هذه الدعوة ، وعراقة منبتها ، وامتداد جذورها في شعاب الزمن ، وتوحد أصولها من وراء الزمان والمكان :
( إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ) . .
هذا الذي ورد في هذه السورة وهو يتضمن أصول العقيدة الكبرى . هذا الحق الأصيل العريق . هو الذي في الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى .
ووحدة الحق ، ووحدة العقيدة ، هي الأمر الذي تقتضيه وحدة الجهة التي صدر عنها ، ووحدة المشيئة التي اقتضت بعثة الرسل إلى البشر . . إنه حق واحد ، يرجع إلى أصل واحد . تختلف جزئياته وتفصيلاته باختلاف الحاجات المتجددة ، والأطوار المتعاقبة . ولكنها تلتقي عند ذلك الأصل الواحد . الصادر من مصدر واحد . . من ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى . .
وقوله تعالى : { إن هذا } قال الضحاك : أراد القرآن ، وروي أن القرآن انتسخ من { الصحف الأولى } وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : الإشارة إلى معاني السورة ، وقال ابن زيد : الإشارة إلى هذين الخبرين «إفلاح من تزكى » وإيثار الناس للدنيا مع فضل الآخرة عليها ، وهذا هو الأرجح لقرب المشار إليه بهذا . وقوله تعالى : { لفي الصحف الأولى } أي لم ينسخ هذا قط في شرع من الشرائع فهو في الأولى وفي الأخيرات ، ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت {[11758]} » أي أنه مما جاءت به الأولى واستمر في الغي .
تذييل للكلام وتنويه به بأنه من الكلام النافع الثابت في كتب إبراهيم وموسى عليهما السلام ، قصد به الإِبلاغ للمشركين الذين كانوا يعرفون رسالة إبراهيم ورسالة موسى ، ولذلك أكّد هذا الخبر ب { إنَّ } ولام الابتداء لأنه مسوق إلى المنكرين .
والإِشارة بكلمة { هذا } إلى مجموع قوله { قد أفلح من تزكى إلى قوله وأبقى } [ الأعلى : 14 17 ] فإن ما قَبْل ذلك من أول السورة إلى قوله : { قد أفلح من تزكى } [ الأعلى : 14 ] ، ليس مما ثَبت معناه في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام .
روى ابن مردويه والآجُري عن أبي ذر قال : « قلت يا رسول الله هل أُنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى ؟ قال : نعم { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والأخرة خير وأبقى } [ الأعلى : 14 17 ] . ولم أقف على مرتبة هذا الحديث .
ومعنى الظرفية من قوله : { لفي الصحف } أن مماثله في المعنى مكتوب في الصحف الأولى ، فأطلقت الصحف على ما هو مكتوب فيها على وجه المجاز المرسل كما في قوله تعالى : { وقالوا ربنا عجل لنا قطنا } [ ص : 16 ] ، أي ما في قِطِّنا وهو صك الأعمال .
و { الصحف } : جمع صحيفة على غير قياس لأن قياس جمعه صحائف ، ولكنه مع كونه غير مقيس هو الأفصح كما قالوا : سُفُن في جمع سفينة ، ووجه جمع الصحف أن إبراهيم كانت له صحف وأن موسى كانت له صحف كثيرة وهي مجموع صحف أسفار التوراة .
وجاء نظم الكلام على أسلوب الإِجمال والتفصيل ليكون لهذا الخبر مزيد تقرير في أذهان الناس فقوله : { صحف إبراهيم وموسى } بدل من { الصحف الأولى } .
و { الأولى } : وصف لصُحف الذي هو جمع تكسير فله حكم التأنيث . و { الأولى } صيغة تفضيل . واختلف في الحروف الأصلية للفظ أوّل فقيل : حروفه الأصول همزة فواو ( مكررة ) فلام ذكره في « اللسان » فيكون وزن أول : أَأَوَل ، فقلبت الهمزة الثانية واواً وأدغمت في الواو . وقيل : أُصوله : وَاوَان ولام وأن الهمزة التي في أوله مزيدة فوزن أول : أفعل وإدغام إحدى الواوين ظاهر .
وقيل : حروفه الأصلية واو وهمزة ولام فأصل أول أوْ ألْ بوزن أفعل قلبت الهمزة التي بعد الواو واواً وأدغما .
و{ الأولى } : مؤنث أفعل من هذه المادة فإما أن نقول : أصلها أُوْلى سكنت الواو سكوناً ميتاً لوقوعها إثر ضمة ، أو أصلها : وُوْلَى بواو مضمومة في أوله وسكنت الواو الثانية أيضاً ، أو أصلها : وُألَى بواو مضمومة ثم همزة ساكنة فوقع فيه قلب ، فقيل : أولى فوزنها على هذا عُفْلَى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.