ثم حكى - سبحانه - جانبا من الرذائل التى كان يفعلها المشركون مع المؤمنين ، وبشر المؤمنين بأن العاقبة الطيبة ستكون لهم . . فقال - تعالى - :
{ إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ . . . } .
قد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات ، أن بعض المشركين - كأبى جهل والعاص بن وائل - كانوا يستهزئون من فقراء المسلمين كصهيب وعمار بن ياسر .
وقوله - سبحانه - { أَجْرَمُواْ } من الإِجرام ، وهو ارتكاب الجرم . ويطلق على الإِثم العظيم . والذنب الكبير ، والمراد بإجرامهم هنا : كفرهم بالله - تعالى - واستهزائهم بالمؤمنين . أى : إن الذين ارتكبوا فى دنياهم أقبح الجرائم وأشنعها ، وهم زعماء المشركين { كَانُواْ } فى الدنيا { مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ } أى : كانوا فى حياتهم يتهكمون بالمؤمنين ، ويسخرون منهم ، ويعتبرونهم الأراذل الذين يجب الابتعاد عنهم .
وكأنما أطال السياق في عرض صور النعيم الذي ينتظر الأبرار ، تمهيدا للحديث عما كانوا يلقون في الأرض من الفجار . من أذى واستهزاء وتطاول وادعاء . . وقد أطال في عرضه كذلك . ليختمه بالسخرية من الكفار ، وهم يشهدون نعيم الأبرار :
( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون . وإذا مروا بهم يتغامزون . وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . وإذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء لضالون . . وما أرسلوا عليهم حافظين ) . .
( فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ، على الأرائك ينظرون ) . .
( هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ? ) . .
والمشاهد التي يرسمها القرآن لسخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا ، وسوء أدبهم معهم ، وتطاولهم عليهم ، ووصفهم بأنهم ضالون . . مشاهد منتزعة من واقع البيئة في مكة . ولكنها متكررة في أجيال وفي مواطن شتى . وكثير من المعاصرين شهدوها كأنما هذه الآيات قد نزلت في وصفها وتصويرها . مما يدل على أن طبيعة الفجار المجرمين واحدة متشابهة في موقفها من الأبرار في جميع البيئات والعصور ! !
( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ) . . كانوا . . فقد طوى السياق الدنيا العاجلة الزائلة . فإذا المخاطبون به في الآخرة . يرون نعيم الأبرار الذين آمنوا . وهو يذكر لهم ما كان من أمر الدنيا !
إنهم كانوا يضحكون من الذين آمنوا استهزاء بهم ، وسخرية منهم . إما لفقرهم ورثاثة حالهم . وإما لضعفهم
عن رد الأذى . وإما لترفعهم عن سفاهة السفهاء . . فكل هذا مما يثير ضحك الذين أجرموا . وهم يتخذون المؤمنين مادة لسخريتهم أو فكاهتهم المرذولة . وهم يسلطون عليهم الأذى ، ثم يضحكون الضحك اللئيم الوضيع ، مما يصيب الذين آمنوا ، وهم صابرون مترفعون متجملون بأدب المؤمنين !
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن الذين اكتسبوا المآثم، فكفروا بالله في الدنيا، كانوا فيها من الذين أقرّوا بوحدانية الله، وصدّقوا به، يضحكون، استهزاء منهم بهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فوجه ذكر صنيع الكفرة بالمؤمنين في القرآن وجعله آية تتلى، وإن كان المؤمنون بذلك عارفين، يخرج على ثلاثة أوجه:
أحدها: في تبيين موقع الحجج في قلوب المؤمنين وعملها بهم؛ وذلك أن المؤمنين لما امتحنت أنفسهم باحتمال الأذى والمكروه من الكافرين [الذين] انتصبوا لمعاداة آبائهم وأجدادهم وأهاليهم، رفضوا شهواتهم، وتركوا أموالهم، واختاروا اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، ومعلوم أنهم لم يحملوا أنفسهم كل هذه المؤن طمعا ورغبة في الدنيا لما لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يرغب في مثله من نعيم الدنيا، فثبت أن الحجج، هي التي حملتهم، ودعتهم إلى متابعته، لا غير؛ فيكون في ما ذكرنا تثبيت رسالته، وإن لم يكن في الآية إشارة إلى الحجج التي اضطرتهم إلى تصديقه والانقياد له، فيكون في ذكره تقرير لمن تأخر عنهم من المؤمنين لرسالته عليه السلام.
والثاني: أن أولئك المؤمنين صبروا على ما نالهم من المكاره، واستقبلهم من أنواع الأذى في قيامهم بأمر الله تعالى ليكون في ذكره تذكير لمن تأخر عنهم من المؤمنين أن عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه لا عذر لهم في الامتناع عن القيام بما ذكرنا، وإن نالهم من ذلك أذى ومكروه. بل الواجب عليهم الصبر على ما يصيبهم والقيام بما يحق عليهم.
الثالث: ذكر ما لقي الأوائل من السلف من المعاداة والشدائد من الكفرة بإظهارهم دين الإسلام ثم ما نلنا نحن هذه الرتبة، وأكرمنا بالهدى بلا مشقة وعناء، لنشكر الله تعالى بذلك، ونحمده عليه لعظمة ثنائه لديننا وجزيل مننه علينا.
وقوله تعالى: {من الذين آمنوا يضحكون} فضحكهم يكون لأحد وجهين: إما على التعجب منهم أن كيف اختاروا متابعة محمد صلى الله عليه وسلم وحملوا أنفسهم من الشدائد، ورضوا بزوال النعيم عنهم من غير منفعة لهم في ذلك، وهم قوم، كانوا لا يؤمنون بالبعث، يكذبون بما وعد المؤمنون من النعيم في الآخرة، فكان يحملهم ذلك على التعجب، فيضحكون متعجبين منهم. وإما كانوا يضحكون على استهزائهم بالمؤمنين، ويقولون: إن هؤلاء آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه في ما يخبرهم من نعيم الآخرة، ولا يعرفون أنه كذلك، فكانوا يجهلون المؤمنين على ما جهلوا بأنفسهم، وظنوا أن لا بعث ولا جنة ولا نار...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن الذين أجرموا} أي قطعوا ما أمر الله به أن يوصل {كانوا} أي في الدنيا ديدناً وخلقاً وطبعاً وجبلة {من الذين آمنوا} أي ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان {يضحكون} أي يجددون الضحك كلما رأوهم أو ذكروهم استهزاء بهم وبحالاتهم التي هم عليها من علامات الإيمان في رثاثة أحوالهم وقلة أموالهم و- احتقار الناس لهم مع ادعائهم أن الله تعالى لا بد أن ينصرهم ويعلي أمرهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون).. كانوا.. فقد طوى السياق الدنيا العاجلة الزائلة. فإذا المخاطبون به في الآخرة. يرون نعيم الأبرار الذين آمنوا. وهو يذكر لهم ما كان من أمر الدنيا! إنهم كانوا يضحكون من الذين آمنوا استهزاء بهم، وسخرية منهم. إما لفقرهم ورثاثة حالهم. وإما لضعفهم عن رد الأذى. وإما لترفعهم عن سفاهة السفهاء.. فكل هذا مما يثير ضحك الذين أجرموا. وهم يتخذون المؤمنين مادة لسخريتهم أو فكاهتهم المرذولة. وهم يسلطون عليهم الأذى، ثم يضحكون الضحك اللئيم الوضيع، مما يصيب الذين آمنوا، وهم صابرون مترفعون متجملون بأدب المؤمنين!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه من جملة القول الذي يقال يوم القيامة للفجار المحكيّ بقوله تعالى: {ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون} [المطففين: 17] لأنه مرتبط بقوله في آخره: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} إذ يتعين أن يكون قوله: {فَاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} حكاية كلام يصدر في يوم القيامة، إذ تعريف « اليوم» باللام ونصبه على الظرفية يقتضيان أنه يوم حاضر موقّت به الفعل المتعلق هو به، ومعلوم أن اليوم الذي يَضحَك فيه المؤمنون من الكفار وهم على الأرائك هو يوم حاضر حين نزول هذه الآيات وسيأتي مزيد إيضاح لهذا ولأن قوله: {كانوا من الذين آمنوا يضحكون} ظاهر في أنه حكاية كونٍ مضى، وكذلك معطوفاته من قوله: « وإذا مَرّوا، وإذا انقلبوا، وإذا رَأوهم» فدل السياق على أن هذا الكلام حكاية قول ينادي به يوم القيامة مِن حضرة القدس على رؤوس الأشهاد. فإذا جريتَ على ثاني الوجهين المتقدمين في موقع جُمل {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} [المطففين: 18] الآيات، من أنها محكية بالقول الواقع في قوله تعالى: {ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون} [المطففين: 17] إلى هنا فهذه متصلة بها. والتعبير عنهم بالذين أجرموا إظهار في مقام الإِضمار على طريقة الالتفات إذ مقتضى الظاهر أن يقال لهم: إنكم كنتم من الذين آمنوا تضحكون، وهكذا على طريق الخطاب وإن جريت على الوجه الأول بجعل تلك الجمل اعتراضاً، فهذه الجملة مبدأ كلام متصل بقوله: {ثم إنهم لصَالوا الجحيم} [المطففين: 16] واقع موقع بدل الاشتمال لمضمون جملة: {إنهم لصالوا الجحيم} [المطففين: 16] باعتبار ما جاء في آخر هذا من قوله: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} فالتعبير بالذين أجرموا إذَن جار على مقتضى الظاهر وليس بالتفات. وقد اتّضح بما قرَّرناه تناسب نظم هذه الآيات من قوله: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} [المطففين: 18] إلى هنا مزِيدَ اتضاح، وذلك مما أغفل المفسرون العناية بتوضيحه، سوى أن ابن عطية أورد كلمة مجملة فقال: « ولما كانت الآيات المتقدمة قد نيطت بيوم القيامة وأن الويل يومئذ للمكذبين ساغ أن يقول: {فاليوم} على حكاية ما يقال اه...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
فقد كان المجرمون يسخرون من المؤمنين ويتغامزون عليهم كلما مروا بهم ويرمونهم بالضلال مع أنهم ليسوا عليهم وكلاء ولا حفّاظا. ثم يعودون إلى أهلهم، وقد شفوا نفوسهم واغتروا بباطلهم. ولسوف ينقلب الأمر إلى عكسه يوم القيامة، حيث يفوز المؤمنون بالعاقبة السعيدة ويتمتعون بمنازل النعيم ويقفون من الكفار موقف الساخر الشامت لما صاروا إليه من مصير رهيب...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وكشف كتاب الله الستار عن الاستخفاف والتهوين من "قيمة المسلمين"، في نظر الكفار، وأن الكفار يضحكون من الذين آمنوا ويستهزؤون بهم، ويعتبرونهم ضالين عن سواء السبيل، ولا يحملون لهم أدنى تقدير أو احترام، بينما الكفار في خاصة أنفسهم يعتزون بما هم عليه، ويعودون إلى بيوتهم وهم بالمسلمين يهزءون، وبأحوالهم يتفكهون،...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فالآيات تنقل لنا أساليب الكفار القذرة التي كانوا يتعاملون بها مع المؤمنين البررة، وقد صنّفتها في أربعة أساليب: الأسلوب الأوّل: (إنّ الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) فأصل الطغيان والتكبر والغرور والغفلة الذي زُرع في نفوسهم، يدفعهم للضحك على المؤمنين والاستهزاء بهم والنظر إليهم بسخرية واحتقار! وهذا هو شأن كلّ من غرّته أحابيل الشيطان في مواجهة مَن آمن واتقى، وعلى مرِّ الأيّام. وجاء وصفهم ب «أجرموا» بدلاً من «كفروا»، للإشارة إلى إمكان معرفة الكافرين من خلال أعمالهم الإجرامية، فالكفر دائماً مصدر للجرائم والعصيان...