وقوله : { فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } تأكيد لهذا التبري والإِنكار ، ورجوع إلى الشهادة الحق في ذلك .
و{ إن } في قوله { إِن كُنَّا } مخففة من الثقيلة . . أى : فكفى أن يكون الله - تعالى - شهيدا وحكما بيننا وبينكم ، فهو - سبحانه - يعلم حالنا وحالكم ، ويعلم أننا كنا في غفلة عن عبادتكم لنا ، بحيث إننا ما فكرنا فيها ولا رضينا بها .
وقال في هذه الآية إخبارًا عن قول الشركاء فيما راجعوا فيه عابديهم عند ادعائهم عبادتهم : { فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } أي : ما كنا نشعر بها ولا نعلم ، وإنما أنتم كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم ، والله شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا ، ولا أمرناكم بها ، ولا رضينا منكم بذلك .
وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره ، ممن لا يسمع ولا يبصر ، ولا يغني عنهم شيئًا ، ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده ، بل تبرأ منهم في وقت أحوج ما يكونون إليه ، وقد تركوا{[14212]} عبادة الحي القيوم ، السميع البصير ، القادر على كل شيء ، العليم بكل شيء وقد أرسل رسله وأنزل كتبه ، آمرا بعبادته وحده لا شريك له ، ناهيًا عن عبادة ما سواه ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] {[14213]} ، وقال : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] .
والمشركون أنواع وأقسام كثيرون ، قد ذكرهم الله في كتابه ، وبَيّن أحوالهم وأقوالهم ، ورَد عليهم فيما هم فيه أتم رد .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل شركاء المشركين من الاَلهة والأوثان لهم يوم القيامة ، إذ قال المشركون بالله لها : إياكم كنا نعبد ، كفى بالله شهيدا بيننا وبينكم أي إنها تقول : حسبنا الله شاهدا بيننا وبينكم أيها المشركون ، فإنه قد علم أنا ما علمنا ما تقولون . إنّا كُنّا عَنْ عَبادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ يقول : ما كنا عن عبادتكم إيانا دون الله إلا غافلين ، لا نشعر به ولا نعلم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنْ كُنّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ قال : ذلك كلّ شيء يُعبد من دون الله .
حدثني المثنى ، قال : ثني إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : إنْ كُنّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ قال : يقول ذلك كلّ شيء كان يعبد من دون الله .
جملة : { فكفى بالله شهيدا } مؤكدة بالقسم ليُثبتوا البراءة مما ألصق بهم . وجواب القسم { إن كنا عن عبادتكم لغافلين } . وليس قولهم : { كفى بالله شهيدا } قسما على كلامهم المتقدم لأن شأن القسم أن يكون في صدر الجملة .
وعطفت جملة القسم بالفاء للدلالة على أن القسم متفرع على الكلام المتقدم لأن إخبارهم بنفي أن يكونوا يعبدونهم خبرٌ غريب مخالف لما هو مشاهد فناسب أن يفرع عليه ما يحققه ويبينه مع تأكيد ذلك بالقسم . والإتيان بفاء التفريع عند تعقيب الكلام بجملة قسمية من فصيح الاستعمال ، كقوله تعالى : { كمَا أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } [ الحجر : 90 93 ] . ومن خصائصه أنه إذا عطف بفاء التفريع كان مُؤكداً لما قبله بطريق تفريع القسم عليه ومؤكِّداً لما بعده بطريق جواب القسم به .
وهذه الآية لم تفسَّر حق تفسيرها .
والشهيد : الشاهد ، وهو المؤيد والمصدّق لدعوى مدع ، كما تقدم في قوله تعالى : { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا } [ النساء : 6 ] .
و ( كفى ] بمعنى أجزأ وأغنى عن غيره . وتقدم في قوله تعالى : { وكفى بالله وليا } في سورة [ النساء : 45 ] . وهو صيغة خبر مستعمل في إنشاء القسم . والباء مزيدة للتأكيد . وأصله كفى الله شهيداً .
وانتصب : شهيدا } على التمييز لنسبة الكفاية إلى الله لما فيها من الإجمال .
وجملة : { إن كنا عن عبادتكم لغافلين } جواب للقسم . ( وإنْ ) مخففة من ( إنّ ) . واسمها ضمير شأن ملتزم الحذف .
وجملة : { كنا عن عبادتكم لغافلين } مفسّرة لضمير الشأن . واللام فارقة بين ( إنْ ) المؤكدة المخففة و ( إنْ ) النافية .
وتقديم قوله : { عن عبادتكم } على عامله للاهتمام وللرعاية على الفاصلة .