مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ إِن كُنَّا عَنۡ عِبَادَتِكُمۡ لَغَٰفِلِينَ} (29)

قوله تعالى { ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين }

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن هذا نوع آخر من شرح فضائح أولئك الكفار ، فالضمير في قوله { ويوم نحشرهم } عائد إلى المذكور السابق ، وذلك هو قوله : { والذين كسبوا السيئات } فلما وصف الله هؤلاء الذين يحشرهم بالشرك والكفر ، دل على أن المراد من قوله : { والذين كسبوا السيئات } الكفار ، وحاصل الكلام : أنه تعالى يحشر العابد والمعبود ، ثم إن المعبود يتبرأ من العابد ، ويتبين له أنه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته ، والمقصود منه أن القوم كانوا يقولون : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } فبين الله تعالى أنهم لا يشفعون لهؤلاء الكفار ، بل يتبرؤن منهم ، وذلك يدل على نهاية الخزي والنكال في حق هؤلاء الكفار ، ونظيره آيات منها قوله تعالى : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } ومنها قوله تعالى : { ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن }

واعلم أن هذا الكلام يشير على سبيل الرمز إلى دقيقة عقلية ، وهي أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته ، والممكن لذاته محتاج بحسب ماهيته ، والشيء الواحد يمتنع أن يكون قابلا وفاعلا معا ، فما سوى الواحد الأحد الحق لا تأثير له في الإيجاد والتكوين ، فالممكن المحدث لا يليق به أن يكون معبودا لغيره ، بل المعبود الحق ليس إلا الموجد الحق ، وذلك ليس إلا الموجود الحق الذي هو واجب الوجود لذاته ، فبراءة المعبود من العابدين ، يحتمل أن يكون المراد منه ما ذكرناه . والله أعلم بمراده .

المسألة الثانية : ( الحشر ) الجمع من كل جانب إلى موقف واحد و { جميعا } نصب على الحال أي نحشر الكل حال اجتماعهم . و { مكانكم } منصوب بإضمار الزموا . والتقدير : الزموا مكانكم و { أنتم } تأكيد للضمير { وشركاؤكم } عطف عليه . واعلم أن قوله : { مكانكم } كلمة مختصة بالتهديد والوعيد والمراد أنه تعالى يقول للعابدين والمعبودين مكانكم أي الزموا مكانكم حتى تسألوا ، ونظيره قوله تعالى : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسئولون }

أما قوله : { فزيلنا بينهم } ففيه بحثان :

البحث الأول : أن هذه الكلمة جاءت على لفظ المضي بعد قوله : { ثم نقول } وهو منتظر ، والسبب فيه أن الذي حكم الله فيه ، بأن سيكون صار كالكائن الراهن الآن ، ونظيره قوله تعالى : { ونادى أصحاب الجنة }

البحث الثاني : ( زيلنا ) فرقنا وميزنا . قال الفراء : قوله : { فزيلنا } ليس من أزلت ، إنما هو من زلت إذا فرقت . تقول العرب : زلت الضأن من المعز فلم تزل . أي ميزتها فلم تتميز ، ثم قال الواحدي : فالزيل والتزييل والمزايلة ، والتمييز والتفريق . قال الواحدي : وقرئ { فزايلنا بينهم } وهو مثل { فزيلنا } وحكى الواحدي عن ابن قتيبة أنه قال في هذه الآية : هو من زال يزول وأزلته أنا ، ثم حكى عن الأزهري أنه قال : هذا غلط ، لأنه لم يميز بين زال يزول ، وبين زال يزيل ، وبينهما بون بعيد ، والقول ما قاله الفراء ، ثم قال المفسرون : { فزيلنا } أي فرقنا بين المشركين وبين شركائهم من الآلهة والأصنام ، وانقطع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا .

وأما قوله : { وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون } ففيه مباحث :

البحث الأول : إنما أضاف الشركاء إليهم لوجوه : الأول : أنهم جعلوا نصيبا من أموالهم لتلك الأصنام ، فصيروها شركاء لأنفسهم في تلك الأموال ، فلهذا قال تعالى : { وقال شركاؤهم } الثاني أنه يكفي في الإضافة أدنى تعلق ، فلما كان الكفار هم الذين أثبتوا هذه الشركة ، لا جرم حسنت إضافة الشركاء إليهم . الثالث : أنه تعالى لما خاطب العابدين والمعبودين بقوله : { مكانكم } صاروا شركاء في هذا الخطاب .

البحث الثاني : اختلفوا في المراد بهؤلاء الشركاء . فقال بعضهم : هم الملائكة ، واستشهدوا بقوله تعالى : { يوم نحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } ومنهم من قال : بل هي الأصنام ، والدليل عليه : أن هذا الخطاب مشتمل على التهديد والوعيد ، وذلك لا يليق بالملائكة المقربين ، ثم اختلفوا في أن هذه الأصنام كيف ذكرت هذا الكلام . فقال بعضهم : إن الله تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق فيها ، فلا جرم قدرت على ذكر هذا الكلام . وقال آخرون إنه تعالى يخلق فيها الكلام من غير أن يخلق فيها الحياة حتى يسمع منها ذلك الكلام ، وهو ضعيف ، لأن ظاهر قوله : { وقال شركاؤهم } يقتضي أن يكون فاعل ذلك القول هم الشركاء .

فإن قيل : إذا أحياهم الله تعالى فهل يبقيهم أو يفنيهم ؟

قلنا : الكل محتمل ولا اعتراض على الله في شيء من أفعاله ، وأحوال القيامة غير معلومة ، إلا القليل الذي أخبر الله تعالى عنه في القرآن .

والقول الثالث : إن المراد بهؤلاء الشركاء ، كل من عبد من دون الله تعالى ، من صنم وشمس وقمر وأنسي وجني وملك .

البحث الثالث : هذا الخطاب لا شك أنه تهديد في حق العابدين ، فهل يكون تهديدا في حق المعبودين ؟ أما المعتزلة : فإنهم قطعوا بأن ذلك لا يجوز . قالوا : لأنه لا ذنب للمعبود ، ومن لا ذنب له ، فإنه يقبح من الله تعالى أن يوجه التخويف والتهديد والوعيد إليه . وأما أصحابنا ، فإنهم قالوا إنه تعالى لا يسئل عما يفعل .

البحث الرابع : أن الشركاء قالوا : { ما كنتم إيانا تعبدون } وهم كانوا قد عبدوهم ، فكان هذا كذبا ، وقد ذكرنا في سورة الأنعام اختلاف الناس في أن أهل القيامة هل يكذبون أم لا ، وقد تقدمت هذه المسألة على الاستقصاء ، والذي نذكره ههنا ، أن منهم من قال : إن المراد من قولهم { ما كنتم إيانا تعبدون } هو أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا ؟ قالوا : والدليل على أن المراد ما ذكرناه وجهان :

الأول : أنهم استشهدوا بالله في ذلك حيث قالوا : { فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم } والثاني : أنهم قالوا : { إن كنا عن عبادتكم لغافلين } فأثبتوا لهم عبادة ، إلا أنهم زعموا أنهم كانوا غافلين عن تلك العبادة ، وقد صدقوا في ذلك ، لأن من أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها بشيء ولا شعور البتة . ومن الناس من أجرى الآية على ظاهرها . وقالوا : إن الشركاء أخبروا أن الكفار ما عبدوها ، ثم ذكروا فيه وجوها : الأول : أن ذلك الموقف موقف الدهشة والحيرة ، فذلك الكذب يكون جاريا مجرى كذب الصبيان ، ومجرى كذب المجانين والمدهوشين . والثاني : أنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا وجعلوها لبطلانها كالعدم ، ولهذا المعنى قالوا : إنهم ما عبدونا . والثالث : أنهم تخيلوا في الأصنام التي عبدوها صفات كثيرة ، فهم في الحقيقة إنما عبدوا ذوات موصوفة بتلك الصفات ، ولما كانت ذواتها خالية عن تلك الصفات ، فهم ما عبدوها وإنما عبدوا أمورا تخيلوها ولا وجود لها في الأعيان ، وتلك الصفات التي تخيلوها في أصنامهم أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله بغير إذنه .