ثم عادت السورة الكريمة مرة أخرى إلى الحديث عن يوم القيامة ، وعن أحوال الناس فيه ، وعن حالة الإِنسان فى وقت الاحتضار ، وعن مظاهر قدرته - تعالى - وعن حكمته فى البعث والحساب والجزاء ، فقال - سبحانه - :
{ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ . . . } . .
قوله - سبحانه - { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة . وَتَذَرُونَ الآخرة } بيان لما جبل عليه كثير من الناس ، من إيثارهم منافع الدنيا الزائلة ، على منافع الآخرة الباقية ، وزجر ونهى لهم عن سلوك هذا المسلك ، الذى يدل على قصر النظر ، وضعف التفكير .
أى : كلا - أيها الناس - ليس الرشد فى أن تتركوا العمل الصالح الذى ينفعكم يوم القيامة ، وتعكفوا على زينة الحياة الدنيا العاجلة . . بل الرشد كل الرشد فى عكس ذلك ، وهو أن تأخذوا من دنياكم وعاجلتكم ما ينفعكم فى آخرتكم ، كما قال - سبحانه - : { وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا } وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى - : { إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً }
ثم يمضي سياق السورة في عرض مشاهد القيامة وما يكون فيها من شأن النفس اللوامة ، فيذكرهم بحقيقة نفوسهم وما يعتلج فيها من حب للدنيا وانشغال ، ومن إهمال للآخرة وقلة احتفال ؛ ويواجههم بموقفهم في الآخرة بعد هذا وما ينتهي إليه حالهم فيها . ويعرض لهم هذا الموقف في مشهد حي قوي الإيحاء عميق الإيقاع :
( كلا . بل تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة . وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة ؛ ووجوه يومئذ باسرة ، تظن أن يفعل بها فاقرة ) . .
وأول ما يلحظ من ناحية التناسق في السياق هو تسمية الدنيا بالعاجلة في هذا الموضع . ففضلا عن إيحاء اللفظ بقصر هذه الحياة وسرعة انقضائها - وهو الإيحاء المقصود - فإن هناك تناسقا بين ظل اللفظ وظل الموقف السابق المعترض في السياق ، وقول الله تعالى لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ]( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) . . فهذا التحريك وهذه العجلة هي أحد ظلال السمة البشرية في الحياة الدنيا . . وهو تناسق في الحس لطيف دقيق يلحظه التعبير القرآني في الطريق !
القول في تأويل قوله تعالى : { كَلاّ بَلْ تُحِبّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الاَخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ * إِلَىَ رَبّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } .
يقول تعالى ذكره لعباده المخاطبين بهذا القرآن المؤثرين زينة الحياة الدنيا على الاَخرة : ليس الأمر كما تقولون أيها الناس من أنكم لا تبعثون بعد مماتكم ، ولا تجازون بأعمالكم ، لكن الذي دعاكم إلى قيل ذلك محبتكم الدنيا العاجلة ، وإيثاركم شهواتها على آجل الاَخرة ونعيمها ، فأنتم تؤمنون بالعاجلة ، وتكذّبون بالاَجلة ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كَلاّ بَلْ تُحِبّونَ العاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الاَخِرَةَ اختار أكثر الناس العاجلة ، إلاّ من رحم الله وعصم .
وقوله تعالى : { كلا بل تحبون العاجلة } رجوع إلى مخاطبة قريش ، فرد عليهم وعلى أقوالهم في رد الشريعة بقوله : { كلا } ليس ذلك كما تقولون . وإنما أنتم قوم قد غلبتكم الدنيا بشهواتها ، فأنتم تحبونها حباً تتركون معه الآخرة والنظر في أمرها .
وقرأ الجمهور «تحبون » بالتاء على المخاطبة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن ومجاهد والجحدري وقتادة «يحبون » بالياء على ذكر الغائب وكذلك «يذرون »
رجوع إلى مَهيع الكلام الذي بنيت عليه السورة كما يرجِع المتكلم إلى وَصل كلامه بعد أن قطعه عارض أو سائل ، فكلمة { كلاّ } ردع وإبطال . يجوز أن يكون إبطالاً لما سبق من قوله : { أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه إلى قوله : ولو ألقى معاذيره } [ القيامة : 3 15 ] ، فأعيد { كَلاّ } تأكيداً لنظيره ووصلاً للكلام بإعادة آخر كلمة منه .
والمعنى : أن مَزَاعِمَهُم باطلة .
وقوله : { بل تحبون العاجلة } إضراب إبطالي يُفصِّل ما أجمله الردع ب { كّلا } من إبطال ما قبلها وتكذيبِه ، أي لا معاذير لهم في نفس الأمر ولكنهم أحبوا العاجلة ، أي شهوات الدنيا وتركوا الآخرة ، والكلام مشعر بالتوبيخ ومناط التوبيخ هو حب العاجلة مع نبذ الآخرة ( فأما لو أحب أحد العاجلة وراعى الآخرة ، أي جرى على الأمر والنهي الشرعيين لم يكن مذموماً . قال تعالى فيما حكاه عن الذين أوتوا العلم من قوم قارون { وابتغ فِيما ءاتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } [ القصص : 77 ] .
ويجوز أن يكون إبطالاً لما تضمنه قوله : { ولو ألقى معاذيره } [ القيامة : 15 ] فهو استئناف ابتدائي . h والمعنى : أن معاذيرهم باطلة ولكنهم يحبون العاجلة ويذرون الآخرة ، أي آثروا شهواتهم العاجلة ولم يحسبوا للآخرة حساباً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.