وقوله - عز وجل - : { ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } بيان للأسباب التى أفضت بهم إلى تلك العاقبة السيئة .
أى : ذلك الذى نزل بهم من العذاب الشديد ، المتمثل فى حشرهم على وجوههم وفى اشتعال النار بهم ، سببه أنهم كفروا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا وقالوا بإنكار وجهالة : أئذا كنا عظامًا نخرة ، ورفاتا أى وصارت أجسادنا تشبه التراب فى تفتتها وتكسرها ، أئنا بعد ذلك لمعادون إلى الحياة ومبعوثون على هيئة خلق جديد .
فالآية الكريمة تحكى تصميمهم على الكفر ، وإنكارهم للبعث والحساب إنكارًا لا مزيد عليه ، لذا كانت عقوبتهم شنيعة ، وعذابهم أليمًا . فقد سلط الله - تعالى - عليهم النار تأكل أجزاءهم ، وكلما سكن لهيبها ، أعادها الله - تعالى - ملتهبة مشتعلة على جلود أخرى لهم ، كما قال - تعالى -
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب . . . }
وهي نهاية مفزعة وجزاء مخيف . ولكنهم يستحقونه بكفرهم بآيات الله : ( ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا )واستنكروا البعث واستبعدوا وقوعه : ( وقالوا : أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ? )
والسياق يعرض هذا المشهد كأنه هو الحاضر الآن ، وكأنما الدنيا التي كانوا فيها قد انطوت صفحتها وصارت ماضيا بعيدا . . وذلك على طريقة القرآن في تجسيم المشاهد وعرضها واقعة حية ، تفعل فعلها في القلوب والمشاعر قبل فوات الأوان .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَإِذَا كُنّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } .
يقول تعالى ذكره : هذا الذي وصفنا من فعلنا يوم القيامة بهؤلاء المشركين ، ما ذكرت أن نفعل بهم من حشرهم على وجوههم عميا وبكما وصما ، وإصلائنا إياهم النار على ما بيّنا من حالتهم فيها ثوابَهم بكفرهم في الدنيا بآياتنا ، يعني بأدلته وحججه ، وهم رسله الذين دعوهم إلى عبادته ، وإفرادهم إياه بالألوهة دون الأوثان والأصنام ، وبقولهم إذا أُمروا بالإيمان بالميعاد ، وبثواب الله وعقابه في الاَخرة أئِذَا كُنّا عِظاما بالية وَرُفاتا قد صرنا ترابا أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقا جَدِيدا يقولون : نُبعث بعد ذلك خلقا جديدا كما ابتدأناه أوّل مرّة في الدنيا استنكارا منهم لذلك ، واستعظاما وتعجبا من أن يكون ذلك .
وقوله { ذلك جزاؤهم } الآية ، الإشارة إلى الوعيد المتقدم بجهنم ، وقوله { بآياتنا } يعم الدلائل والحجج التي جاء بها محمد عليه السلام ، ويعم آيات القرآن وما تضمن من خبر وأمر ونهي ، ثم عظم عليهم أمر إنكار البعث ، وخصه بالذكر مع كونه في عموم الكفر بآيات القرآن ، ووجه تخصيصه التعظيم له والتنبيه على خطارة{[7716]} الكفر في إنكاره ، وقد تقدم اختلاف القرآء في الاستفهامين في غير هذا الموضع ، و «الرفات » بقية الشيء التي قد أصارها البلى إلى حال التراب ، و «البعث » تحريك الشيء الساكن ، وهذا الاستفهام منهم هو على جهة الإنكار والاستبعاد للحال بزعمهم .
استئناف بياني لأن العقاب الفظيع المحكي يثير في نفوس السامعين السؤال عن سبب تركب هذه الهيئة من تلك الصورة المفظعة ، فالجواب بأن ذلك بِسبب الكفر بالآيات وإنكار المعاد .
فالإشارة إلى ما تقدم من قوله : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } [ الإسراء : 97 ] إلى آخر الآية بتأويل : المذكور .
والباء في { بأنهم كفروا } للسببية .
والظاهر أن جملة { وقالوا أإذا كنا عظاما } الخ . عطف على جملة { بأنهم كفروا } . فذكر وجه اجتماع تلك العقوبات لهم ، وذُكر سببان :
أحدهما : الكفر بالآيات ويندرج فيه صنوف من الجرائم تفصيلاً وجمعاً تناسبها العقوبة التي في قوله : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم } [ الإسراء : 97 ] .
وثانيهما : } إنكارهم البعث بقولهم : { أإذا كنا عظاما ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقا جديداً } المناسب له أن يُعاقبوا عقاباً يناسب ما أنكروه من تجدد الحياة بعد المصير رفاتاً ، فإن رفات الإحراق أشد اضمحلالاً من رفات العظام في التراب .
والاستفهام في حكاية قولهم : { أإذا كنا عظاماً } وقوله : { أئنا لمبعوثون } إنكاري . وتقدم اختلاف القراء في إثبات الهمزتين في قوله : { أإذا } وفي إثباتها في قوله : { أإذا لمبعوثون } في نظير هذه الآية من هذه السورة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا}، يعني: بآيات القرآن،
{وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا}، يعني: ترابا.
{أءنا لمبعوثون خلقا جديدا}، يعنون البعث...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصفنا من فعلنا يوم القيامة بهؤلاء المشركين، ما ذكرت أن نفعل بهم من حشرهم على وجوههم عميا وبكما وصما، وإصلائنا إياهم النار على ما بيّنا من حالتهم فيها ثوابهم بكفرهم في الدنيا بآياتنا، يعني بأدلته وحججه، وهم رسله الذين دعوهم إلى عبادته، وإفرادهم إياه بالألوهة دون الأوثان والأصنام، وبقولهم إذا أُمروا بالإيمان بالميعاد، وبثواب الله وعقابه في الآخرة "أئِذَا كُنّا عِظاما "بالية "وَرُفاتا" قد صرنا ترابا "أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقا جَدِيدا" يقولون: نُبعث بعد ذلك خلقا جديدا كما ابتدأناه أوّل مرّة في الدنيا استنكارا منهم لذلك، واستعظاما وتعجبا من أن يكون ذلك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {ذلك جزاؤهم...}، الإشارة إلى الوعيد المتقدم بجهنم، وقوله {بآياتنا} يعم الدلائل والحجج التي جاء بها محمد عليه السلام، ويعم آيات القرآن وما تضمن من خبر وأمر ونهي، ثم عظم عليهم أمر إنكار البعث، وخصه بالذكر مع كونه في عموم الكفر بآيات القرآن، ووجه تخصيصه التعظيم له والتنبيه على خطارة الكفر في إنكاره... و «الرفات» بقية الشيء التي قد أصارها البلى إلى حال التراب، و «البعث» تحريك الشيء الساكن، وهذا الاستفهام منهم هو على جهة الإنكار والاستبعاد للحال بزعمهم...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والآيات تعم القرآن والحجج التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ونص على إنكار البعث إذ هو طعن في القدرة الإلهية وهذا مع اعترافهم بأنه تعالى منشئ العالم ومخترعه، ثم إنهم ينكرون الإعادة فصار ذلك تعجيزاً لقدرته...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم بين علة تعذيبهم ليرجع منهم من قضى بسعادته فقال تعالى: {ذلك} أي العذاب العظيم {جزاؤهم بأنهم} أهل الضلالة {كفروا بآيتنا} القرآنية وغيرها، مع ما لها من العظمة بنسبتها إلينا، وكانوا كل يوم يزدادون كفراً، وهم عازمون على الدوام على ذلك ما بقوا {وقالوا} إنكاراً لقدرتنا {إذا كنا عظاماً ورفاتاً} ممزقين في الأرض؛ ثم كرروا الإنكار كأنهم على ثقة من أمرهم هذا الذي بطلانه أوضح من الشمس بقولهم: {أإنا لمبعوثون} أي ثابت بعثنا {خلقاً جديداً} فنحن نريهم جزاء على هذا الإنكار المكرر الخلق الجديد في جلودهم مكرراً كل لحظة، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب} [النساء: 56].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والسياق يعرض هذا المشهد كأنه هو الحاضر الآن، وكأنما الدنيا التي كانوا فيها قد انطوت صفحتها وصارت ماضيا بعيدا.. وذلك على طريقة القرآن في تجسيم المشاهد وعرضها واقعة حية، تفعل فعلها في القلوب والمشاعر قبل فوات الأوان...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد صرح الله فوق الإشارة بالسببية، وهو الكفر بالآيات الدالة على وحدانية الله، والمعجزات الدالة على إرسال الرسل وخصوصا معجزة القرآن، وهو المعجزة الكبرى. وأشاروا إلى السبب الأصلي لكفرهم بكل الحق، وهو إنكارهم للبعث، وأشار إلى ذلك بقوله تعالى عنهم: {أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا}...
(جزاؤهم) أي: حاق بهم العذاب عدلاً لا ظلماً، فإياك حين تسمع آيات العذاب هذه أن تأخذك بهم رأفة أو رحمة؛ لأنهم أخذوا جزاء عملهم وعنادهم وكفرهم... ثم يوضح سبحانه وتعالى حيثية هذا العذاب: {بأنهم كفروا بآياتنا}: والآيات تطلق على الآيات الكونية، أو على آيات المعجزات المؤيدة لصدق الرسول، أو آيات القرآن الحاملة للأحكام.. وقد وقع منهم الكفر بكل الآيات، فكفروا بالآيات الكونية، ولم يستدلوا بها على الخالق سبحانه، ولم يتدبروا الحكمة من خلق هذا الكون البديع، وكذلك كفروا بآيات القرآن ولم يؤمنوا بما جاءت به. وهذا كله يدل على نقص في العقيدة، وخلل في الإيمان الفطري الذي خلقه الله فيهم، وكذلك كذبوا بمعجزات الرسول، فدل ذلك على خلل في التصديق... وقوله: {عظاماً ورفاتاً}: الرفات: هو الفتات وزناً ومعنى، وهو: الشيء الجاف الذي تكسر؛ لذلك جاءت لترتيب هكذا: عظاماً ورفاتاً؛ لأن جسم الإنسان يتحلل وتمتص الأرض عناصر تكوينه، ولا يبقى منه إلا العظام، وبمرور الزمن تتكسر هذه العظام، وتتفتت وتصير رفاتاً، وهم يستبعدون البعث بعد ما صاروا عظاماً ورفاتاً...