وهنا يرد الزعماء باستنكار وضيق ، ويحكى ذلك القرآن فيقول : { قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا } على سبيل التوبيخ والتقريع { أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ } كلا ، إننا ما فعلنا ذلك ، ولسنا نحن الذين حلنا بينكم وبين اتباع الحق .
{ بَلْ } أنتم الذين { كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } فى حق أنفسكم ، حيث ابتعتمونا باختياركم ، ورضيتم عن طواعية منكم أن تتبعوا غيركم بدون تفكر أو تدبر للأمور .
ويضيق الذين استكبروا بالذين استضعفوا . فهم في البلاء سواء . وهؤلاء الضعفاء يريدون أن يحملوهم تبعة الإغواء الذي صار بهم إلى هذا البلاء ! وعندئذ يردون عليهم باستنكار ، ويجبهونهم بالسب الغليظ :
( قال الذين استكبروا للذين استضعفوا : أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ? بل كنتم مجرمين ) !
فهو التخلي عن التبعة ، والإقرار بالهدى ، وقد كانوا في الدنيا لا يقيمون وزناً للمستضعفين ولا يأخذون منهم رأياً ، ولا يعتبرون لهم وجوداً ، ولا يقبلون منهم مخالفة ولا مناقشة ! أما اليوم - وأمام العذاب - فهم يسألونهم في إنكار : ( أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ? ) . . ( بل كنتم مجرمين ) . . من ذات أنفسكم ، لا تهتدون ، لأنكم مجرمون !
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلّذِينَ اسْتُضْعِفُوَاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىَ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مّجْرِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوا في الدنيا ، فرأسوا في الضلالة والكفر بالله لِلّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فيها فكانوا أتباعا لأهل الضلالة منهم ، إذ قالوا لهم لَوْلا أنْتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ أَنحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الهُدَى ومنعناكم من اتباع الحقّ بَعْدَ إذْ جاءَكُمْ من عند الله ، يبين لكم بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ فمنعكم إيثاركم الكفر بالله على الإيمان من اتباع الهدى ، والإيمان بالله ورسوله .
ثم فسر ذلك الجدل بأن الأتباع والضعفاء من الكفرة يقولون للكفار وللرؤوس على جهة التذنيب والتوبيخ ورد اللائمة عليهم { لولا أنتم } لآمنا نحن واهتدينا ، أي أنتم أغويتمونا وأمرتمونا بالكفر ، فقال لهم الرؤساء على جهة التقرير والتكذيب { أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين } أي دخلتم في الكفر ببصائركم ، وأجرمتم بنظر منكم ، ودعوتنا لم تكن ضربة لازب عليكم لأنا دعوناكم بغير حجة ولا برهان .
جُرِّد فعل { قال } عن العاطف لأنه جاء على طريقة المجاوبة والشأنْ فيه حكاية القول بدون عطف كما بيّناه غير مرة .
وهمزة الاستفهام مستعملة في الإِنكار على قول المستضعفين تبرّؤا منه . وهذا الإِنكار بهتان وإنكار للواقع بعثه فيهم خوف إلقاء التبعة عليهم وفرط الغضب والحسرة من انتقاض أتباعهم عليهم وزوال حرمتهم بيْنهم فلم يتمالكوا أن لا يكذبوهم ويذيلوا بتوريطهم .
وأتى بالمسند إليه قبل المسند الفعلي في سياق الاستفهام الإِنكاري الذي هو في قوة النفي ليفيد تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلي على طريقة : ما أنا قلت هذا .
والمعنى : ما صددناكم ولكن صدكم شيء آخر وهو المعطوف ب { بل } التي للإِبطال بقوله : { بل كنتم مجرمين } أي ثبت لكم الإِجرام من قبل وإجرامكم هو الذي صدّكم إذ لم تكونوا على مقاربة الإِيمان فنصدكم عنه ولكنكم صددتم وأعرضتم بإجرامكم ولم تقبلوا دعوة الإِيمان .
وحاصل المعنى : أن حالنا وحالكم سواء ، كل فريق يتحمل تبعة أعماله فإن كلا الفريقين كان مُعْرِضاً عن الإِيمان . وهذا الاستدلال مكابرة منهم وبهتان وسفسطة فإنهم كانوا يصدون الدهماء عن الدين ويختلقون لهم المعاذير . وإنما نفوا هنا أن يكونوا محوِّلين لهم عن الإِيمان بعد تقلده وليس ذلك هو المدَّعَى . فموقع السفسطة هو قولهم : { بعد إذ جاءكم } لأن المجيء فيه مستعمل في معنى الاقتراب منه والمخالطة له .
و { إذ } في قوله : { إذ جاءكم } مجردة عن معنى الظرفية ومحضة لكونها اسم زمان غير ظرف وهو أصل وضعها كما تقدم في قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } في سورة البقرة ( 30 ) ، ولهذا صحت إضافة بعد } إليها لأن الإِضافة قرينة على تجريد { إذ } من معنى الظرفية إلى مطلق الزمان مثل قولهم : حينئذٍ ويومئذٍ . والتقدير : بعد زمن مجيئه إياكم . و { بل } إضراب إبطال عن الأمر الذي دخل عليه الاستفهام الإِنكاري ، أي ما صددناكم بل كنتم مجرمين .
والإِجرام : الشرك وهو مؤذن بتعمدهم إياه وتصميمهم عليه على بصيرة من أنفسهم دون تسويل مسوّل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.