ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين ، أرشدهم فيه إلى ما يسعدهم ، وينجيهم من كل سوء ، فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . } .
هذه الآيات الكريمة جواب عما قاله بعض المؤمنين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو نعلم أى الأعمال أحب إلى الله لعملناها ، كما سبق . أن ذكرنا فى سبب قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } فكأنه - سبحانه - بعد أن نهاهم عن أن يقولوا قولا ، تخالفه أفعالهم ، وضرب لهم الأمثال بجانب من قصة موسى وعيسى - عليهما السلام - وبشرهم بظهور دينهم على سائر الأديان .
بعد كل ذلك أرشدهم إلى أحب الأعمال إليه - سبحانه - فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ } .
والتجارة فى الأصل معناها : التصرف فى رأس المال ، وتقليبه فى وجوه المعاملات المختلفة ، طلبا للربح .
والمراد بها هنا : العقيدة السليمة ، والأعمال الصالحة ، التى فسرت بها بعد ذلك فى قوله - تعالى - { تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ } .
والاستفهام فى قوله - تعالى - : { هَلْ أَدُلُّكمْ } للتشويق والتحضيض إلى الأمر المدلول عليه .
والمعنى : يا من آمنتم بالله - تعالى - وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ألا تريدون أن أدلكم على تجارة رابحة ، تنجيكم مزاولتها ومباشرتها ، من عذاب شديد الأليم ؟ إن كنتم تريدون ذلك ، فهاكم الطريق إليها ، وهى : { تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلّكمْ عَلَىَ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلّكُمْ على تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ }موجع ، وذلك عذاب جهنم ثم بين لنا جلّ ثناؤه ما تلك التجارة التي تنجينا من العذاب الأليم ، فقال : تُؤمِنُونَ باللّهِ وَرَسُولِهِ محمد صلى الله عليه وسلم .
فإن قال قائل : وكيف قيل : تُؤمنُونَ باللّهِ وَرَسُولِهِ ، وقد قيل لهم : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا }بوصفهم بالإيمان ؟ فإن الجواب في ذلك نظير جوابنا في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بالله }وقد مضى البيان عن ذلك في موضعه بما أغنى عن إعادته .
وقوله : { وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيل اللّهِ بأمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ }يقول تعالى ذكره : وتجاهدون في دين الله ، وطريقه الذي شرعه لكم بأموالكم وأنفسكم { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ }يقول : إيمانكم بالله ورسوله ، وجهادكم في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم خَيْرٌ لَكُمْ من تضييع ذلك والتفريط إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مضارّ الأشياء ومنافعها . وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «آمِنُوا باللّهِ » على وجه الأمر ، وبيّنت التجارة من قوله : { هَلْ أدُلّكُمْ على تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ }وفسّرت بقوله : { تُؤمِنُونَ باللّهِ }ولم يقل : أن تؤمنوا ، لأن العرب إذا فسرت الاسم بفعل تثبت في تفسيره أن أحيانا ، وتطرحها أحيانا ، فتقول للرجل : هل لك في خير تقوم بنا إلى فلان فنعوده ؟ هل لك في خير أن تقوم إلى فلان فنعوده ؟ ، بأن وبطرحها . ومما جاء في الوجهين على الوجهين جميعا قوله : فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ إلى طَعامِهِ أنّا وإنا فالفتح في أنا لغة من أدخل في يقوم أن من قولهم : هل لك في خير أن تقوم ، والكسر فيها لغة من يُلقي أن من تقوم ومنه قوله : فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أنّا دَمّرْناهُمْ وإنا دمرناهم ، على ما بيّنا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلّكُمْ على تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ . . . }الآية ، فلولا أن الله بينها ، ودلّ عليها المؤمنين ، لتلهف عليها رجال أن يكونوا يعلمونها ، حتى يضنوا بها وقد دلكم الله عليها ، وأعلمكم إياها فقال : { تُؤمِنُونَ باللّهِ وَرَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بأمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : تلا قتادة : { هَلْ أدُلّكُمْ على تجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أليمٍ تُؤمِنُونَ باللّهِ وَرَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : الحمد لله الذي بينها .
وقرأ جمهور القراء والناس : «تُنْجِيكُم » بتخفيف النون وكسر الجيم دون شد ، وقرأ ابن عامر وحده{[11079]} والحسن والأعرج وابن أبي إسحاق : «تُنَجِّيكم » بفتح النون وشد الجيم .
هذا تخلص إلى الغرض الذي افتتحت به السورة من قوله : { يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } إلى قوله : { كأنهم بنيان مرصوص } [ الصف : 2 4 ] . فبعد أن ضربت لهم الأمثال ، وانتقل الكلام من مجال إلى مجال ، أعيد خطابهم هنا بمثل ما خوطبوا به بقوله : { يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } [ الصف : 2 ] ، أي هل أدلكم على أحب العمل إلى الله لتعملوا به كما طلبتم إذْ قلتم لو نعلم أيَّ الأعمال أحبّ إلى الله لعملنا به فجاءت السورة في أُسلوب الخطابة .
والظاهر أن الضمير المستتر في { أدلكم } عائد إلى الله تعالى لأن ظاهر الخطاب أنه موجه من الله تعالى إلى المؤمنين . ويجوز أن يجعل الضمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم على تقدير قول محذوف وعلى اختلاف الاحتمال يختلف موقع قوله الآتي { وبشر المؤمنين } [ الصف : 13 ] .
والاستفهام مستعمل في العَرض مجازاً لأن العارض قد يسأل المعروضَ عليه ليعلم رغبته في الأمر المعروض كما يقال : هل لك في كذا ؟ أو هل لك إلى كذا ؟
والعرض هنا كناية عن التشويق إلى الأمر المعروض ، وهو دلالته إياهم على تجارة نافعة . وألفاظ الاستفهام تخرج عنه إلى معان كثيرة هي من ملازمات الاستفهام كما نبه عليه السكّاكي في « المفتاح » ، وهي غير منحصرة فيما ذكره .
وجيء بفعل { أدلكم } لإِفادة ما يذكر بعده من الأشياء التي لا يهتدى إليها بسهولة .
وأطلق على العمل الصالح لفظُ التجارة على سبيل الاستعارة لمشابهة العمل الصالح التجارةَ في طلب النفع من ذلك العمل ومزاولته والكد فيه ، وقد تقدم في قوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } في سورة [ البقرة : 16 ] .
ووصف التجارة بأنها تنجي من عذاب أليم ، تجريد للاستعارة لقصد الصراحة بهذه الفائدة لأهميتها وليس الإِنجاء من العذاب من شأن التجارة فهو من مناسبات المعنى الحقيقي للعمل الصالح .