الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ} (59)

ثم نعتهم بقوله : " الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون " وقرأ أبو عمرو ويعقوب والجحدري وابن إسحاق وابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وخلف : " يا عبادي " بإسكان الياء وفتحها الباقون " إن أرضي " فتحها ابن عامر وسكنها الباقون وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من فر بدينه من أرض إلي أرض ولو قيد شبر استوجب الجنة وكان رفيق محمد وإبراهيم ) عليهما السلام . " ثم إلينا ترجعون " . وقرأ السلمي وأبو بكر عن عاصم : " يرجعون " بالياء ؛ لقوله : " كل نفس ذائقة الموت " وقرأ الباقون بالتاء ؛ لقوله : " يا عبادي الذين آمنوا " وأنشد بعضهم :

الموت في كل حين ينشدُ الكَفَنَا *** ونحن في غفلة عما يُرَادُ بِنَا

لا تركننَّ إلى الدنيا وزهرتِها *** وإن تَوَشَّحَتْ من أثوابِهَا الحَسَنَا

أين الأحبة والجيران ما فعلوا *** أين الذين هُمُو كانوا لها سَكَنَا

سقاهم الموت كأسا غيرَ صافيةٍ *** صيَّرهم تحت أطباق الثَّرَى رُهُنَا

قوله تعالى : " لنبوئنهم من الجنة غرفا " وقر أ ابن مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي : " لنثوينهم " بالثاء مكان الباء من الثوى وهو الإقامة ، أي لنعطينهم غرفا يثوون فيها ، وقرأ رويس عن يعقوب والجحدري والسلمي : " ليبوئنهم " بالياء مكان النون . الباقون " لنبوئنهم " أي لننزلنهم " غرفا " جمع غرفة وهي العلية المشرفة . وفي صحيح مسلم عن سهل{[12421]} بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أهل الجنة ليتراؤون أهل الغرف من فوقهم كما تتراؤون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم ) قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال : ( بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ) . وخرج الترمذي عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها ) فقام إليه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : ( هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى لله بالليل والناس نيام ) وقد زدنا هذا المعنى بيانا في كتاب ( التذكرة ) والحمد لله .


[12421]:هذه رواية أبي سعيد الخدري، كما في صحيح مسلم.