الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَلَمۡ أَدۡرِ مَا حِسَابِيَهۡ} (26)

" كلوا واشربوا " أي يقال لهم ذلك . " هنيئا " لا تكدير فيه ولا تنغيص . " بما أسلفتم " قدمتم من الأعمال الصالحة . " في الأيام الخالية " أي في الدنيا . وقال : " كلوا " بعد قوله : " فهو في عيشة راضية " لقوله : " فأما من أوتي " و " من " يتضمن معنى الجمع . وذكر الضحاك أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبدالله بن عبد الأسد المخزومي ، وقاله مقاتل . والآية التي تليها في أخيه الأسود بن عبد الأسد ، في قول ابن عباس والضحاك أيضا ، قاله الثعلبي . ويكون هذا الرجل وأخوه سبب نزول هذه الآيات . ويعم المعنى جميع أهل الشقاوة وأهل السعادة ، يدل عليه قوله تعالى : " كلوا واشربوا " . وقد قيل : إن المراد بذلك كل من كان متبوعا في الخير والشر . فإذا كان الرجل رأسا في الخير ، يدعو إليه ويأمر به ويكثر تبعه عليه ، دعي باسمه واسم أبيه فيتقدم حتى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخط أبيض ، في باطنه السيئات وفي ظاهره الحسنات فيبدأ بالسيئات فيقرأها فيشفق ويصفر وجهه ويتغير لونه فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه " هذه سيئاتك وقد غفرت لك " فيفرح عند ذلك فرحا شديدا ، ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته فلا يزداد إلا فرحا ، حتى إذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه " هذه حسناتك قد ضوعفت لك " فيبيض وجهه ويؤتى بتاج فيوضع على رأسه ، ويكسى حلتين ، ويحلى كل مفصل منه ويطول ستين ذراعا وهي قامة آدم عليه السلام ، ويقال له : انطلق إلى أصحابك فأخبرهم وبشرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا . فإذا أدبر قال : هاؤم اقرؤوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه . قال الله تعالى : " فهو في عيشة راضية " أي مرضية قد رضيها " في جنة عالية " في السماء " قطوفها " ثمارها وعناقيدها . " دانية " أدنيت منهم . فيقول لأصحابه : هل تعرفوني ؟ فيقولون : قد غمرتك كرامة ، من أنت ؟ فيقول : أنا فلان بن فلان أبشر كل رجل منكم بمثل هذا . " كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية " أي قدمتم في أيام الدنيا .

وإذا كان الرجل رأسا في الشر ، يدعو إليه ويأمر به فيكثر تبعه عليه ، نودي باسمه واسم أبيه فيتقدم إلى حسابه ، فيخرج له كتاب أسود بخط أسود في باطنه الحسنات وفي ظاهره السيئات ، فيبدأ بالحسنات فيقرأها ويظن أنه سينجو ، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه " هذه حسناتك وقد ردت عليك " فيسود وجهه ويعلوه الحزن ويقنط من الخير ، ثم يقلب كتابه فيقرأ سيئاته فلا يزداد إلا حزنا ، ولا يزداد وجهه إلا سوادا ، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه " هذه سيئاتك وقد ضوعفت عليك " أي يضاعف عليه العذاب . ليس المعنى أنه يزاد عليه ما لم يعمل - قال - فيعظم للنار وتزرق عيناه ويسود وجهه ، ويكسى سرابيل القطران ويقال له : انطلق إلى أصحابك وأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا . فينطلق وهو يقول : " يا ليتني لم أوت كتابيه . ولم أدر ما حسابيه . يا ليتها كانت القاضية " يتمنى الموت .