وهنا لا بد من إيمان يرجح المخاوف ، ويطمئن القلوب ، ويثبتها على الحق الذي تنحاز إليه :
( وقال موسى : يا قوم إن كنتم آمنتم باللّه فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ) . .
فالتوكل على اللّه دلالة الإيمان ومقتضاه . وعنصر القوة الذي يضاف إلى رصيد القلة الضعيفة أمام الجبروت الطاغي فإذا هي أقوى وأثبت . وقد ذكر لهم موسى الإيمان والإسلام . وجعل التوكل على اللّه مقتضى هذا وذاك . . مقتضى الاعتقاد في اللّه ، ومقتضى إسلام النفس له خالصة والعمل بما يريد . .
{ وقال موسى } لما رأى تخوف المؤمنين به . { يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكّلوا } فثقوا به واعتمدوا عليه . { إن كنتم مسلمين } مستسلمين لقضاء الله مخلصين له ، وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين ، فإن المعلق بالإيمان وجوب التوكل فإنه المقتضي له ، والمشروط بالإسلام حصوله فإنه لا يوجد مع التخطيط ونظيره إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت .
وقوله تعالى : { وقال موسى - إلى - الكافرين } ، ابتداء حكاية قول موسى لجماعة بني إسرائيل المؤمنين منهم مؤنساً لهم ونادباً إلى التوكل على الله الذي بيده النصر ومسألة التوكل متشعبة للناس فيها خوضات ، والذي أقول : إن التوكل الذي يأمرنا له هو مقترن بتسبب جميل على مقتضى الشرع ، وهو الذي في قوله صلى الله عليه وسلم «قيدها وتوكل »{[6197]} فقد جعله متوكلاً مع التقييد والنبي صلى الله عليه وسلم رأس المتوكلين وقد تسبب عمره كله ، وكذلك السلف كله ، فإن شذ متوكل فترك التسبب جملة فهي رتبة رفيعة ما لم يسرف بها إلى حد قتل نفسه وإهلاكها ، كمن يدخل غاراً خفياً يتوكل فيه فهذا ونحوه مكروه عند جماعة من العلماء ، وما روي من إقدام عامر بن قيس على الأسد ونحو ذلك كله ضعيف ، وللصحيح منه قرائن تسهله ، وللمسلمين أجمعين قال الله تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم }{[6198]} ، ولهم قال { وعلى الله فتوكلوا }{[6199]} ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في مدح السبعين ألفا من أمته : { وعلى ربهم يتوكلون }{[6200]} ليس فيه أنهم يتركون التسبب جملة واحدة ولا حفظ عن عكاشة أنه ترك التسبب بل كان يغزو ويأخذ سهامه{[6201]} ، وأعني بذلك ترك التسبب في الغذاء ، وأما ترك التسبب في الطب فسهل وكثير من الناس جبل عليه دون نية وحسبة ، فكيف بمن يحتسب ، وقال لهم : { إن كنتم آمنتم } مع علمه بإيمانهم على جهة إقامة الحجة وتنبيه الأنفس و «إثارة الأنفة كما تقول ، إن كنت رجلاً فقاتل ، تخاطب بذلك رجلاً تريد إقامة نفسه ، وقوله { إن كنتم مسلمين } ، يريد أهل طاعة منضافة إلى الإيمان المشروط ، فذكر الإسلام فيه زيادة معنى .
عطف بقية القصة على أولها فهو عطف على جملة { وقال فرعون } [ يونس : 79 ] ، وهذا خطاب موسى لجميع قومه وهم بنو إسرائيل الذين بمصر ، وهو يدل على أنه خاطبهم بذلك بعد أن دعاهم وآمنوا به كما يؤذن به قوله : { إن كنتم آمنتم بالله } . والغرض منه تثبيت الذين آمنوا به في حضرة فرعون على توكلهم ، وأمْرُ مَن عداهم الذين خاف ذريتُهم أن يؤنبوهم على إظهار الإيمان بأن لا يُجبِّنوا أبناءهم ، وأن لا يخشوا فرعون ، ولذلك قال : { إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا } .
والمعنى : إن كنتم آمنتم بالله حقاً كما أظهرتْه أقوالكم فعليه اعتمدوا في نصركم ودفع الضر عنكم ولا تعتمدوا في ذلك على أنفسكم بمصانعة فرعون ولا على فرعون بإظهار الولاء له .
وأراد إثارة صدق إيمانهم وإلهابَ قلوبهم بجعل إيمانهم معلقاً بالشرط محتمل الوقوع ، حيث تخوفوا من فرعون أن يفتنهم فأرادوا أن يكتموا إيمانهم تقية من فرعون وملئهم ، وإنما جَعل عدم اكتراثهم ببطش فرعون علامة على إيمانهم لأن الدعوة في أول أمرها لا تتقوم إلا بإظهار متبعيها جماعتَهم ، فلا تغتفر فيها التقية حينئذٍ . وبذلك عمل المسلمون الأولون مثل بلال ، وعمار ، وأبي بكر ، فأعلنوا الإيمان وتحملوا الأذى ، وإنما سوغت التقية للآحاد من المؤمنين بعد تقوم جامعة الإيمان فذلك محل قوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] .
فتقديم المجرور على متعلقه في قوله : { فعليه توكلوا } لإفادة القصر ، وهو قصر إضافي يفسره قوله : { على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم } [ يونس : 83 ] ، فآل المعنى إلى نهيهم عن مخافة فرعون .
والتوكلُ : تقدم آنفاً في قصة نوح .
وجملة : { إن كنتم مسلمين } شرط ثان مؤكد لشرط { إن كنتم آمنتم بالله } ، فحصل من مجموع الجملتين أن حصول هذا التوكل متوقف على حصول إيمانهم وإسلامهم ، لمزيد الاعتناء بالتوكل وأنه ملازم للإيمان والإسلام ، ومبين أيضاً للشرط الأول ، أي إن كان إيمانكم إيمان مسلم لله ، أي مخلص له غير شائب إياه بتردد في قدرة الله ولا في أن وعده حق ، فَحصَل من مجموع الشرطين ما يقتضي تعليق كل من الشرطين على الشرط الآخر .
وهذا من مسألة تعليق الشرط على الشرط ، والإيمان : تصديق الرسول فيما جاء به وهو عمل قلبي ، ولا يعتبر شرعاً إلا مع الإسلام ، والإسلامُ : النطق بما يدل على الإيمان ولا يعتبر شرعاً إلا مع الإيمان ، فالإيمان انفعال قلبي نفساني ، والإسلام عمل جسماني ، وهما متلازمان في الاعتداد بهما في اتّباع الدين إذ لا يعلم حصول تصديق القلب إلا بالقول والطاعة ، وإذ لا يكون القول حقاً إلا إذا وافق ما في النفس ، قال تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } [ الحجرات : 14 ] . وقد ورد ذلك صريحاً في حديث سؤال جبريل في « الصحيحين » .
وليس المراد أنهم إن لم يتوكلوا كانوا مؤمنين غير مسلمين ، ولا أنهم إن توكلوا كانوا مسلمين غير مؤمنين ، لأن ذلك لا يساعد عليه التدين بالدين . ومن ثم كان قوله : { فعليه توكلوا } جواباً للشرطين كليهما . أي يقدر للشرط الثاني جواب مماثل لجواب الشرط الأول . هذا هو محمل الآية وما حاوله كثير من المفسرين خروج عن مهيع الكلام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.