إنه الجواب ذاته على وجه التقريب :
وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة ، وأترفناهم في الحياة الدنيا : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ، ويشرب مما تشربون . ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذن لخاسرون . .
فالاعتراض المكرور هو الاعتراض على بشرية الرسول . وهو الاعتراض الناشى ء من انقطاع الصلة بين قلوب هؤلاء الكبراء المترفين ، وبين النفخة العلوية التي تصل الإنسان بخالقه الكريم .
والترف يفسد الفطرة ، ويغلظ المشاعر ، ويسد المنافذ ، ويفقد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر وتستجيب . ومن هنا يحارب الإسلام الترف ؛ ويقيم نظمه الاجتماعية على أساس لا يسمح للمترفين بالوجود في الجماعة المسلمة ، لأنهم كالعفن يفسد ما حوله ، حتى لينخر فيه السوس ، ويسبح فيه الدود !
{ وقال الملأ من قومه الذين كفروا } لعله ذكر بالواو لأن كلامهم لم يتصل بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف قول قوم نوح حيث استؤنف به ، فعلى تقدير سؤال { وكذبوا بلقاء الآخرة } بلقاء ما فيها من الثواب والعقاب ، أو بمعادهم إلى الحياة الثانية بالبعث { وأترفناهم } ونعمناهم { في الحياة الدنيا } بكثرة الأموال والأولاد . { ما هذا إلا بشر مثلكم } في الصفة والحالة . { يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون } تقرير للماثلة و " ما " خبرية والعائد إلى الثاني منصوب محذوف أو مجرور حذف مع الجار لدلالته ما قبله عليه .
{ وأترفناهم } معناه نعمناهم وبسطنا لهم الآمال والأرزاق ، ومقالة هؤلاء أيضاً تقتضي استبعاد بعثة البشر وهذه طائفة وقوم نوح لم يذكر في هذه الآيات أن المعجزة ظهرت لهم وأَنهم كذبوا بعد وضوحها ولكن مقدر معلوم وإن لم تعين لنا المعجزة والعقاب لا يتعلق بأحد إلا بعد تركه الواجب عليه ، ووجوب الاتباع إنما هو بعد قيام الحجة على المرء أو على من هو المقصد ، والجمهور كالعرب في معجزة القرآن والأطباء لعيسى ، والسحرة لموسى ، فبقيام الحجة على هؤلاء قامت على جميع من وراءهم .
عُطفت حكاية قول قومه على حكاية قوله ولم يؤت بها مفصولة كما هو شأن حكاية المحاورات كما بيناه غير مرة في حكاية المحاورات ب ( قال ) ونحوها دون عطف . وقد خولف ذلك في الآية السابقة للوجه الذي بيناه ، وخولف أيضاً في سورة الأعراف وفي سورة هود إذ حكي جواب هؤلاء القوم رسولَهم بدون عطف .
ووجه ذلك أن كلام الملأ المحكيَّ هنا غير كلامهم المحكي في السورتين لأن ما هنا كلامهم الموجَّه إلى خطاب قومهم إذ قالوا : { ما هذا إلا بشر مثلُكم يأكل مما تأكلون منه } إلى آخره خشيةً منهم أن تؤثر دعوة رسولهم في عامتهم ، فرأوا الاعتناء بأن يحولوا دون تأثر نفوس قومهم بدعوة رسولهم أولى من أن يجاوبوا رسولهم كما تقدم بيانه آنفاً في قصة نوح .
وبهذا يظهر وَجه الإعجاز في المواضع المختلفة التي أورد فيها صاحب « الكشاف » سؤالاً ولم يكن في جوابه شافياً وتحيّر شراحه فكانوا على خلاف .
وإنما لم يعطف قول الملأ بفاء التعقيب كما ورد في قصة نوح آنفاً لأن قولهم هذا كان متأخراً عن وقت مقالة رسولهم التي هي فاتحة دعوته بأن يكونوا أجابوا كلامه بالرد والزجر فلما استمر على دعوتهم وكررها فيهم وجهوا مقالتهم المحكية هنا إلى قومهم ومن أجل هذا عطفت جملة جوابهم ولم تأت على أسلوب الاستعمال في حكاية أقوال المحاورات .
وأيضاً لأن كلام رسولهم لم يُحك بصيغة القول بل حكي ب ( أنْ ) التفسيرية لِمَا تضمنه معنى الإرسال في قوله : { فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله } [ المؤمنون : 32 ] .
وقد حكى الله في آيات أخرى عن قوم هود وعن قوم صالح أنهم أجابوا دعوة رسولهم بالرد والزجر كقول قوم هود { قالوا يا هود ما جئتنا بِبَيِّنَة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } [ هود : 53 ، 54 ] ، وقول قوم صالح { قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوًّا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب } [ هود : 62 ] .
وقولُه { وقال الملأ من قومه الذين كفروا } { الذين كفروا } نعت ثان ل { الملأ } فيكون على وزان قوله في قصة نوح { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } [ المؤمنون : 24 ] . وإنما أخر النعت هنا ليتصل به الصفتان المعطوفتان من قوله : { وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم } .
واللقاء : حضور أحد عند آخر . والمراد لقاء الله تعالى للحساب كقوله تعالى : { واعلموا أنكم ملاقوه } في سورة البقرة ( 223 ) وعند قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لَقِيتُم فِئَةً فاثبتوا } في سورة الأنفال ( 45 ) .
وإضافة { لقاء } إلى { الآخرة } على معنى ( في ) أي اللقاء في الآخرة .
والإتراف : جعلهم أصحاب ترف . والترف : النعمة الواسعة . وقد تقدم عند قوله : { وارْجِعُوا إلى ما أترِفْتم فيه } في سورة الأنبياء ( 13 ) .
وفي هذين الوصفين إيماء إلى أنهما الباعث على تكذيبهم رسولَهم لأن تكذيبهم بلقاء الآخرة ينفي عنهم توقع المؤاخذة بعد الموت ، وثروتهم ونعمتهم تغريهم بالكبر والصلف إذ ألِفوا أن يكونوا سادة لا تبعاً ، قال تعالى : { وذَرْني والمكذّبين أولي النعمة } [ المزمل : 11 ] ، ولذلك لم يتقبلوا ما دعاهم إليه رسولهم من اتقاء عذاب يوم البعث وطلبهم النجاة باتباعهم ما يأمرهم به فقال بعضهم لبعض { ولئن أطَعْتُم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون أيَعِدُكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مُخْرَجون } .
و { ما هذا إلا بشر مثلكم } كناية عن تكذيبه في دعوى الرسالة لتوهمهم أن البشرية تنافي أن يكون صاحبها رسولاً من الله فأتوا بالملزوم وأرادوا لازمه .
وجملة { يأكل مما تأكلون منه } في موقع التعليل والدليل للبشرية لأنه يأكل مثلهم ويشرب مثلهم ولا يمتاز فيما يأكله وما يشربه .
وحذف متعلق { تشربون } وهو عائد الصلة للاستغناء عنه بنظيره الذي في الصلة المذكورة قبلها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.