في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَفَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ} (33)

بعد ذلك يجيء المقطع الأخير في السورة . في إيقاع كامل التنغيم ، أشبه بإيقاع المقطع الأول . يقرر الحقائق الأساسية للعقيدة كما هي ثابتة منذ إبراهيم صاحب الحنيفية الأولى . ويعرف البشر بخالقهم ، بتعليمهم بمشيئته الفاعلة المبدعة المؤثرة في حياتهم ويعرض آثارها واحدا واحدا بصورة تلمس الوجدان البشري وتذكره وتهزه هزا عميقا . . حتى إذا كان الختام وكان الإيقاع الأخير تلقته المشاعر مرتجفة مرتعشة متأثرة مستجيبة :

( أفرأيت الذي تولى ، وأعطى قليلا وأكدى ? أعنده علم الغيب فهو يرى ? أم لم ينبأ بما في صحف موسى ، وإبراهيم الذي وفى . ألا تزر وازرة وزر أخرى . وأن ليس للإنسان إلا ما سعى . وأن سعيه سوف يرى . ثم يجزاه الجزاء الأوفى . وأن إلى ربك المنتهى . وأنه هو أضحك وأبكى . وأنه هو أمات وأحيا . وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى . وأن عليه النشأة الأخرى ، وأنه هو أغنى وأقنى . وأنه هو رب الشعرى . وأنه أهلك عادا الأولى . وثمود فما أبقى . وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى . والمؤتفكة أهوى . فغشاها ما غشى . فبأي آلاء ربك تتمارى ? هذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة . أفمن هذا الحديث تعجبون ، وتضحكون ولا تبكون ، وأنتم سامدون ? فاسجدوا لله واعبدوا ) . . وذلك ( الذي تولى ، وأعطى قليلا وأكدى ) . . الذي يعجب الله من أمره الغريب ، تذكر بعض الروايات أنه فرد معين مقصود ، أنفق قليلا في سبيل الله ، ثم انقطع عن البذل خوفا من الفقر . ويحدد الزمخشري في تفسيره " الكشاف " شخصه ، أنه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ويذكر في ذلك قصة ، لا يستند فيها إلى شيء ، ولا يقبلها من يعرف عثمان - رضي الله عنه - وطبيعته وبذله الكثير الطويل في سبيل الله بلا توقف وبلا حساب كذلك ؛ وعقيدته في الله وتصوره لتبعة العمل وفرديته .

وقد يكون المقصود شخصا بذاته . وقد يكون نموذجا من الناس سواء . فالذي يتولى عن هذا النهج ، ويبذل من ماله أو من نفسه لهذه العقيدة ثم يكدي - أي يضعف عن المواصلة ويكف - أمره عجيب ، يستحق التعجيب ويتخذ القرآن من حاله مناسبة لعرض حقائق العقيدة وتوضيحها .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَفَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ} (33)

{ أفرأيت الذي تولى } عن اتباع الحق والثبات عليه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَفَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ} (33)

وقوله تعالى : { أفرأيت الذي تولى } الآية ، قال مجاهد وابن زيد وغيرهما نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي وذلك أنه سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وجلس إليه ووعظه رسول الله ، فقرب من الإسلام ، وطمع النبي عليه السلام فيه ، ثم إنه عاتبه رجل من المشركين وقال له : أتترك ملة آبائك ؟ ارجع إلى دينك واثبت عليه وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة ، لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال ، فوافقه الوليد على ذلك ، ورجع عما هم به من الإسلام وضل ضلالاً بعيداً ، وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح ، فنزلت الآية فيه .

وذكر الثعلبي عن قوم أنها نزلت في عثمان بن عفان في قصة جرت له مع عبد الله بن سعد بن أبي سرح{[10718]} وذلك كله عندي باطل ، وعثمان رضي الله عنه منزه عن مثله ، وقال السدي : نزلت في العاصي بن وائل .


[10718]:ذكر القرطبي أن خبر عثمان بن عفان مع أخيه ابن أبي سرح نقل عن ابن عباس، والسدي، والكلبي، والمُسيب بن شريك، وفيه أن عثمان رضي الله عنه كان يتصدق وينفق في الخير، فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع؟ يوشك ألا يبقى لك شيء، فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه، فقال له عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه، وأمسك عما كان يصنع من الصدقة، فأنزل الله تعالى:{أفرأيت الذي تولى، وأعطى قليلا وأكدى}،فعاد عثمان إلى أحسن ذلك وأجمله، وقد ذكر ذلك الثعلبي، وذكره الواحدي في (أسباب النزول)، وسابقة عثمان رضي الله عنه وتاريخه في الإسلام يجعلنا نؤكد رأي ابن عطية في نفي ذلك عنه.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أَفَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ} (33)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{أفرأيت الذي تولى} عن الحق...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: أفرأيت يا محمد الذي أدبر عن الإيمان بالله، وأعرض عنه وعن دينه، وأعطى صاحبه قليلاً من ماله، ثم منعه فلم يعطه، فبخِل عليه. وذُكر أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة من أجل أنه عاتبه بعض المشركين، وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه، فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه شيئا من ماله، ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الآخرة، ففعل، فأعطى الذي عاتبه على ذلك بعض ما كان ضمن له، ثم بخل عليه ومنعه تمام ما ضمن له... عن ابن عباس" أعْطَى قَلِيلاً وأكْدَى "قال: أعطى قليلاً ثم انقطع...

قال ابن زيد، في قوله: "وأكْدَى": عاسره، والعرب تقول: حفر فلان فأكدى، وذلك إذا بلغ الكدية، وهو أن يحفِر الرجل في السهل، ثم يستقبله جبل فيُكْدِي...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

هذا يخرّج على وجهين:

أحدهما: {أفرأيت الذي تولّى} {وأعطى قليلا} من كبر الكفرة وعظمائهم، وأعطى قليلا من المال الضّعَفَة أهل الإيمان ليرجِعوا عن الإيمان بمحمد والتصديق به، ويكذبوا عليه {وأكدى} أي قطع عنهم في وقت أيضا. وكذا قال القتبيّ: {وأكدى} أي قطع، وهو من كُديَة الرَّكيّة، وهي الصلابة فيها، إذا بلغها الحافر يئس من حفرها، فقطع الحفر.

والثاني: قيل لكل من طلب شيئا، فلم يبلُغ، أو أعطى، فلم يُتمِّم: أكدى. وقال أبو عوسجة: أكدى: بخِل، ورجل مُكْدٍ: بخيل.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

وإذا ذكر التولي غير مقيد في القرآن، فأكثر استعماله أنه استعارة عن عدم الدخول في الإيمان...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما أمره سبحانه بالإعراض عمن تولى عن التشرف بذكر الملك الأعظم واللجاء إليه، ونهى عن التزكية للجهل بالعواقب، وكان قد ارتد ناس عن الإسلام، كان سبب ارتدادهم إخباره صلى الله عليه وسلم عن بعض ما رأى من الآيات الكبرى ليلة الإسراء، وكان لما نزلت عليه صلى الله عليه وسلم سجدة النجم وسجد فيها صلى الله عليه وسلم سجد معه -كما في البخاري- المسلمون والمشركون والجن والإنس، ولم يكن في ظن أحد من الخلق انقلابهم على أدبارهم بعد حتى ولا في ظن المرتدين، سبب عن ذلك قوله: {أفرأيت} أي أخبروني {الذي تولّى} أي عن ذكرنا بعد أن كان حريصاً عليه، يظن هو وأهله أنه عريق في أهله بإيمانه وأعماله في أيام إيمانه.

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

الإيضاح: {أفرأيت الذي تولى*وأعطى قليلا وأكدى*أعنده علم الغيب فهو يرى} أي أعلمت شأن هذا الكافر؟ وهل بلغك شأنه العجيب، فقد أشرف على الإيمان واتباع هدى الرسول، فوسوس له شيطان من شياطين الإنس بألا يقبل نصح الناصح، ويرجع إلى دين آبائه، ويتحمل ما عليه من وزر إذا هو أعطاه قليلا من المال، فقبل ذلك منه، لكنه ما أعطاه إلا قليلا حتى امتنع من إعطائه شيئا بعد ذلك، أفعنده علم بأمور الغيب، فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ما يخاف من أوزاره يوم القيامة؟. وقصارى ذلك: أخبرني بأمر هذا الكافر وحاله العجيبة، إذ قبل أن سواه يحمل أوزاره إذا أدى له أجرا معلوما، أأنزل عليه وحي فرأى أن ما صنعه حق؟...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وقد يكون المقصود شخصا بذاته. وقد يكون نموذجا من الناس سواء. فالذي يتولى عن هذا النهج، ويبذل من ماله أو من نفسه لهذه العقيدة ثم يكدي -أي يضعف عن المواصلة ويكف- أمره عجيب، يستحق التعجيب ويتخذ القرآن من حاله مناسبة لعرض حقائق العقيدة وتوضيحها.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

واتفق المفسرون والرواة على أن المراد به هنا معين ولعل ذلك وجه التعبير عنه بلفظ {الذي} دون كلمة {من} لأن {الذي} أظهر في الإطلاق على الواحد المعين دون لفظ {من}.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول: إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

وانتقل كتاب الله إلى وصف نموذج من الناس تفيض فيهم عاطفة البر والإحسان، فيبادرون في بعض الأحيان إلى إسداء الخير لمستحقيه، وبذل المعروف لأهله، ثم تجف في قلوبهم هذه العاطفة النبيلة، فينقلبون إلى بخلاء أشحاء، موسوسين بالتفكير في "اليوم الأسود " الذي يفاجئهم بالعسر بعد اليسر، وبالفقر بعد الغنى، وأبطل كتاب الله مخاوف هذا الصنف من الناس الذين يقبضون أيديهم بعدما بسطوها بالبر والإحسان، مؤكدا لهم أن علم الغيب أمر قاصر على الله، وأنه لا مبرر لخوفهم من المستقبل المظلم، من جراء مداومتهم على عمل البر، فذلك أمر لا يتفق مع التصديق بوعد الله، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: {أفرأيت الذي تولى33 وأعطى قليلا وأكدى34 أعنده علم الغيب فهو يرى35}...