( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا : ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم . وقالوا : ما هذا إلا إفك مفترى . وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم : إن هذا إلا سحر مبين . وما آتيناهم من كتب يدرسونها ، وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير . وكذب الذين من قبلهم - وما بلغوا معشار ما آتيناهم - فكذبوا رسلي ، فكيف كان نكير ? ) . .
لقد قابلوا الحق الواضح البين الذي يتلوه عليهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] برواسب غامضة من آثار الماضي ، وتقاليد لا تقوم على أساس واضح ، وليس لها قوام متماسك . ولقد أحسوا خطورة ما يواجههم به القرآن الكريم من الحق البسيط المستقيم المتماسك . أحسوا خطورته على ذلك الخليط المشوش من العقائد والعادات والتقاليد التي وجدوا عليها آباءهم فقالوا قولتهم تلك :
( ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم ) . .
ولكن هذا وحده لا يكفي . فإن مجرد أنه يخالف ما كان عليه الآباء ليس مطعناً مقنعاً لجميع العقول والنفوس . ومن ثم أتبعوا الادعاء الأول بادعاء آخر يمس أمانة المبلغ ، ويرد قوله أنه جاء بما جاء به من عند الله :
( وقالوا : ما هذا إلا إفك مفترى ) . .
والإفك هو الكذب والافتراء ؛ ولكنهم يزيدونه توكيداً : ( ما هذا إلا إفك مفترى ) . .
ذلك ليشككوا في قيمته ابتداء ، متى أوقعوا الشك في مصدره الإلهي .
( وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم : إن هذا إلا سحر مبين ) . .
فهو كلام مؤثر يزلزل القلوب ، فلا يكفي أن يقولوا : إنه مفترى . فحاولوا إذن أن يعللوا وقعه القاهر في القلوب . فقالوا : إنه سحر مبين !
فهي سلسلة من الاتهامات ، حلقة بعد حلقة ، يواجهون بها الآيات البينات كي يحولوا بينها وبين القلوب . ولا دليل لهم على دعواهم . ولكنها جملة من الأكاذيب لتضليل العامة والجماهير . أما الذين كانوا يقولون هذا القول - وهم الكبراء والسادة - فقد كانوا على يقين أنه قرآن كريم ، فوق مقدور البشر ، وفوق طاقة المتكلمين ! وقد سبق في الظلال ما حدث به بعض هؤلاء الكبراء بعضاً في أمر محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وأمر القرآن ؛ وما دبروا بينهم من كيد ليصدوا به الجماهير عن هذا القرآن الذي يغلب القلوب ويأسر النفوس !
ولما أخبر أنهم أبوا الإيمان{[57040]} بالقرآن ، المخبر بالغيب من أمر الرحمن الذي هدت إليه العقول ، وشاهدت آثاره العيون ، في هذا الكلام المعجز ، فتظافرت على ما أخبرت{[57041]} به أدلة السمع والبصر والعقل ، وختم بأنهم آمنوا بالجن غيباً وعبدوهم من دون الله بما لم يدع إليه عقل ولا نقل ، وصدقوهم من الإخبار بما إن صدقوا في شيء منه خلطوا معه أكثر من مائة كذبة ، وسلب أعظم من ادعوا أنهم استندوا{[57042]} إليه{[57043]} النفع والضر ، وأسند تعذيبهم إلى تكذيبهم ، أتبعه الإخبار بأنهم لازموا الإصرار على ذلك الكفر والتكذيب بما كله صدق وحكم فقال : { وإذا تتلى } أي في وقت من الأوقات من أيّ تال كان { عليهم } أي خاصة لم يشركهم غيرهم ليقولوا : إنه المقصود بالتلاوة ، فلا يلزمهم الاستماع{[57044]} { آياتنا } حال كونها { بينات } ما قالت شيئاً إلا ظهرت حقيته{[57045]} { قالوا } أي على الفور من غير تأمل لما حملهم على ذلك من حظ النفس{[57046]} .
ولما كان المستكبرون يرون ما للرسالة من الظهور ، وللرسول من القبول ، وأن أتباعهم قد ظهر لهم ذلك ، فمالوا إليه بكلياتهم ، أكده قولهم : { ما هذا } أي{[57047]} التالي لها على ما فيه من السمت المعلم بأنه أصدق الخلق وأعلاهم همة وأبينهم نصيحة { إلا رجل } أي مع كونه واحداً هو مثل واحد من رجالكم ، وتزيدون {[57048]}عليه أنتم{[57049]} بالكثرة ، ولم يسندوا الفعل إليهم نفياً للغرض{[57050]} عن أنفسهم وإلهاباً للمخاطبين فقالوا : { يريد أن يصدكم } أي بهذا الذي يتلوه { عما كان } دائماً{[57051]} { يعبد آباؤكم } أي لا قصد له إلا ذلك لتكونوا له أتباعاً ، وألهبوا السامعين بتصوير آبائهم بذكر " كان " والفعل المضارع ملازمين للعبادة ليثبتوا على كفرهم بما لا دليل عليه ولا شبهة ولا داع سوى التقليد .
ولما كانت أدلة الكتاب واضحة ، خافوا عاقبتها في قبول الاتباع لها ، فجزموا بأنها كذب ليوقفوهم بذلك ، فحكى ذلك عنهم سبحانه بقوله : { وقالوا ما هذا } أي القرآن { إلا إفك } أي كذب مصروف عن وجهه { مفترى } أي متعمد ما فيه من الصرف .
ولما كان فيه ما لا يشك أحد في حقيته ، لبسوا عليهم بأنه خيال يوشك أن ينكشف إيقافاً لهم إلى{[57052]} وقت ما ، فقال تعالى إخباراً عنهم : { وقال } ولما كان الحق قد يخفى ، ولم يقيده بالبيان كما فعل في الآيات ، أظهر موضع الإضمار بياناً للوصف الحامل لهم على ذلك القول وهو التدليس ، فقال : { الذين كفروا } أي ستروا ما دلت عليه العقول من حقية القرآن ، { للحق } أي الذي لا أثبت منه باعتبار كمال الحقية فيه { لما جاءهم } أي من غير أن يمهلوا النظر ولا تدبر{[57053]} ليقال{[57054]} إن الداعي لهم إلى ما قالوا نوع شبهة عرضت لهم ، بل أظهروا بالمسارعة إلى الطعن أنه مما لا يتوقف فيه ، وأكدوا لما تقدم من خوفهم على أتباعهم ليخيلوهم{[57055]} فقالوا : { إن } أي ما { هذا } أي الثابت الذي لا يكون شيء أثبت منه { إلا سحر } أي خيال لا حقيقة له { مبين * } أي ظاهر العوار جداً ، فهو ينادي على نفسه بذلك ، فلا تغتروا بما فيه مما يميل النفوس ويؤثر في القلوب ، ولقد انصدّ لعمري بهذا{[57056]} التلبيس - مع أن في{[57057]} نسبتهم له إلى السحر الاعتراف بالعجز - بشر كثير برهة من الدهر حتى هدى الله بعضهم ، وتمادى بالآخرين{[57058]} الأمر حتى ماتوا على ضلالهم ، مع أنه كان ينبغي لكل من رأى مبادرتهم وتحرقهم أن يعرف أنهم{[57059]} متغرضون ، لم يحملهم على ذلك إلا الحظوظ النفسانية ، والعلق الشهوانية ، قال الطفيل ابن عمرو{[57060]} الدوسي ذو النور{[57061]} رضي الله عنه{[57062]} : لقد اكثروا عليّ{[57063]} في أمره حتى حشوت{[57064]} في أذنيّ الكرسف خوفاً من أن يخلص إلى شيء من كلامه فيفتنني ، ثم أراد الله بي الخير فقلت : واثكل أمي{[57065]} إني والله لبيب عاقل شاعر ، ولي معرفة بتمييز{[57066]} غث الكلام من سمينه ، فما لي لا أسمع منه ، فإن كان حقاً تبعته ، وإن كان باطلاً كنت منه على بصيرة - أو كما قال ، قال{[57067]} : فقصدت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : اعرض{[57068]} عليّ ما جئت به ، فلما عرضه عليّ بأبي هو وأمي ما سمعت قولاً قط أحسن منه ، ولا أمراً أعدل منه ، فما{[57069]} توقفت في أن أسلمت ، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو {[57070]}الله له{[57071]} أن يعطيه{[57072]} آية تعينه على قومه ، فلما أشرف على حاضر{[57073]} قومه كان له نور في جبهته ، فخشي أن يظنوا أنها مثلة ، فدعا بتحويله ، فتحول في طرف سوطه ، فأعانه الله على قومه فأسلموا{[57074]} .