والقرآن يغذي هذا الإحساس ويقويه . بإطلاق مشاعر الإنسان من الانشغال بهم الرزق ومن شح النفس . فالرزق في ذاته مكفول . تكفل به الله تعالى لعباده . وهو لا يطلب إليهم بطبيعة الحال أن يطعموه - سبحانه - أو يرزقوه . حين يكلفهم إنفاق هذا المال لمحتاجيه ، والقيام بحق المحرومين فيه :
( ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) . .
وإذن لا يكون حافز المؤمن للعمل وبذل الجهد في الخلافة هو الحرص على تحصيل الرزق . بل يكون الحافز هو تحقيق معنى العبادة ، الذي يتحقق ببذل أقصى الجهد والطاقة . ومن ثم يصبح قلب الإنسان معلقا بتحقيق معنى العبادة في الجهد ، طليقا من التعلق بنتائج الجهد . . وهي مشاعر كريمة لا تنشأ إلا في ظل هذا التصوير الكريم .
وإذا كانت البشرية لا تدرك هذه المشاعر ولا تتذوقها ، فذلك لأنها لم تعش - كما عاش جيل المسلمين الأول - في ظلال هذا القرآن . ولم تستمد قواعد حياتها من ذلك الدستور العظيم .
وحين يرتفع الإنسان إلى هذا الأفق . أفق العبادة . أو أفق العبودية . ويستقر عليه ، فإن نفسه تأنف حتما من اتخاذ وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة . ولو كانت هذه الغاية هي نصر دعوة الله وجعل كلمته هي العليا . فالوسيلة الخسيسة من جهة تحطم معنى العبادة النظيف الكريم . ومن جهة أخرى فهو لا يعني نفسه ببلوغ
الغايات ، إنما يعني نفسه بأداء الواجبات ، تحقيقا لمعنى العبادة في الأداء . أما الغايات فموكولة لله ، يأتي بها وفق قدره الذي يريده . ولا داعي لاعتساف الوسائل والطرق للوصول إلى غاية أمرها إلى الله ، وليست داخلة في حساب المؤمن العابد لله .
ثم يستمتع العبد العابد براحة الضمير ، وطمأنينة النفس ، وصلاح البال ، في جميع الأحوال . سواء رأى ثمرة عمله أم لم يرها . تحققت كما قدرها أم على عكس ما قدرها . فهو قد أنهى عمله ، وضمن جزاءه ، عند تحقق معنى العبادة . واستراح . وما يقع بعد ذلك خارج عن حدود وظيفته . . وقد علم هو أنه عبد ، فلم يعد يتجاوز بمشاعره ولا بمطالبه حدود العبد . وعلم أن الله رب ، فلم يعد يتقحم فيما هو من شؤون الرب . واستقرت مشاعره عند هذا الحد ، ورضي الله عنه ، ورضي هو عن الله .
وهكذا تتجلى جوانب من تلك الحقيقة الضخمة الهائلة ، التي تقررها آية واحدة قصيرة : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) . . وهي حقيقة كفيلة بأن تغير وجه الحياة كلها عندما تستقر حقا في الضمير . . .
وقوله : { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } قال {[27462]} الإمام أحمد :
حدثنا يحيى بن آدم وأبو سعيد قالا حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد{[27463]} ، عن عبد الله بن مسعود قال : أقرأني رسول الله {[27464]} صلى الله عليه وسلم : " إني لأنا الرزاق ذو القوة المتين " .
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث إسرائيل ، وقال الترمذي : حسن صحيح{[27465]} .
ومعنى الآية : أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له ، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذبه أشد العذاب ، وأخبر أنه غير محتاج إليهم ، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم ، فهو خالقهم ورازقهم .
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا عمران - يعني ابن زائدة بن نَشِيط - عن أبيه ، عن أبي خالد - هو الوالبي - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله : " يا ابن آدم ، تَفَرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غِنًى ، وأسدّ فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك " .
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث عمران بن زائدة ، وقال الترمذي : حسن غريب{[27466]} .
وقد روى الإمام أحمد عن وكيع وأبي معاوية ، عن الأعمش ، عن سلام أبي شُرحْبِيل ، سمعت حَبَّة وسواء ابني خالد يقولان : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمل عملا أو يبني بناء - وقال أبو معاوية : يصلح شيئا - فأعناه عليه ، فلما فرغ دعا لنا وقال : " لا تيأسا من الرزق ما تهززت رءوسكما ، فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة ، ثم يعطيه الله ويرزقه " {[27467]} . و [ قد ورد ]{[27468]} في بعض الكتب الإلهية : " يقول الله تعالى : ابن آدم ، خلقتك لعبادتي فلا تلعب ، وتكفلت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني ؛ فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فُتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء " .
جملة { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } تقرير لمعنى { إلا ليعبدون } بإبطال بعض العلل والغايات التي يقصدها الصانعون شيئاً يصنعونه أو يتخذونه ، فإن المعروف في العرف أن من يتخذ شيئاً إنما يتخذه لنفع نفسه ، وليست الجملة لإِفادة الجانب المقصور دُونَه بصيغة القصر لأن صيغة القصر لا تحتاج إلى ذكر الضد . ولا يَحسن ذكر الضد في الكلام البليغ .
فقوله : { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } كناية عن عدم الاحتياج إليهم لأن أشد الحاجات في العرف حاجة الناس إلى الطعام واللباس والسكن وإنما تحصل بالرزق وهو المال ، فلذلك ابتدىء به ثم عطف عليه الإِطعام ، أي إعطاء الطعام لأنه أشد ما يحتاج إليه البشر ، وقد لا يَجده صاحب المال إذا قحط الناس فيحتاج إلى من يسلفه الطعامَ أو يُطعمه إياه ، وفي هذا تعريض بأهل الشرك إذ يُهدون إلى الأصنام الأموال والطعام تتلقاه منهم سدنة الأصنام .
والرزق هنا : المال كقوله تعالى : { فابتغوا عند الله الرزق } [ العنكبوت : 17 ] وقوله : { اللَّه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } [ الرعد : 26 ] وقوله : { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه اللَّه } [ الطلاق : 7 ] ، ويطلق الرزق على الطعام كقوله تعالى : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } [ مريم : 62 ] ويمنع من إرادته هنا عطف { وما أريد أن يطعمون } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
"ما أريد منهم من رزق" يقول: لم أسألهم أن يرزقوا أحدا.
{وما أريد أن يطعمون} يعني أن يرزقون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْق "يقول تعالى ذكره: ما أريد ممن خلقت من الجنّ والإنس من رزق يرزقونه خلقي.
"وَما أُرِيدُ أنْ يُطْعِمُونَ" يقول: وما أريد منهم من قوت أن يقوتوهم، ومن طعام أن يطعموهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ما أريد منهم أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يُطعموا أحدا من خلقي، إنما عليّ رزقهم وإطعامهم كقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} [هود: 6]. ويحتمل: {ما أريد منهم من رزق} إن يرزُقوا من لا يقوم بأسباب الرزق، وأن يُطعموهم؛ إن ذلك عليّ، وإنما أريد منهم العبادة على الوجه الذي ذكرنا، لأنهم لم يُنشئوا لأولئك الذين لم تُجعل لهم المكاسب وأسباب الرزق من الدوابّ، بل هي أُنشئت لأجلهم رزقا ومتعة، والله أعلم. ويحتمل أن يكون على الإضمار على ما قال بعضهم: أي قل يا محمد: ما أريد منكم في ما أدعوكم إليه من أجر، ما أريد أن تطعموني، فيَثقُل عليكم الإيمان...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) معناه نفي الإيهام عن خلقهم لعبادته أن يكون ذلك لفائدة تقع وتعود عليه تعالى، فبين أنه لفائدة النفع العائد على الخلق دونه تعالى لاستحالة النفع عليه ودفع المضار، لأنه غني بنفسه لا يحتاج إلى غيره، وكل الناس محتاجون إليه. ومن زعم أن التأويل ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم، فقد ترك الظاهر من غير ضرورة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يريد: أنّ شأني مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم، فإنّ ملاّك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم، فإمّا مجهز في تجارة ليفي ربحا، أو مرتب في فلاحة ليعتلّ أرضاً، أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته، أو محتطب، أو محتش، أو طابخ، أو خابز، وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{من رزق} أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم. وقوله: {أن يطعمون} إما أن يكون المعنى أن يطعموا خلقي فأضيف ذلك إلى الضمير على جهة التجوز، وهذا قول ابن عباد. وإما أن يكون الإطعام هنا بمعنى النفع على العموم، كما تقول: أعطيت فلاناً كذا وكذا طعمة، وأنت قد أعطيته عرضاً أو بلداً يحييه، ونحو هذا فكأنه قال: ولا أريد أن ينفعوني، فذكر جزءاً من المنافع وجعله دالاً على الجميع.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما حصر سبحانه خلقهم في إرادة العبادة، صرح بهذا المفهوم بقوله: {ما أريد منهم} أي في وقت من الأوقات، وعم في النفي بقوله: {من رزق} أي شيء من الأشياء على وجه ينفعني من جلب أو دفع، لأني منزه عن لحاق نفع أو ضر، كما يفعل غيري من الموالي بعبيدهم من الاستكثار بغلاتهم والاستعانة بقواتهم لأني الغني المطلق وكل شيء مفتقر إليّ {وما أريد} أصلاً {أن يطعمون} أي أن- يرزقوني رزقاً خاصاً هو الإطعام، وفيه تعريض بأصنامهم فإنهم كانوا يعملون معها ما ينفعها ويحضرون لها الأكل، فربما أكلتها الكلاب ثم بالت على الأصنام. ثم لا يصدهم ذلك، وهذه الآية دليل على أن الرزق أعم من الأكل، والتعبير بالإرادة دالّ على ما قلت إنه مقصود بالعبادة. وهو الجري تحت الإرادة، تارة بموافقة الشرع وتارة بمخالفته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فالرزق في ذاته مكفول. تكفل به الله تعالى لعباده. وهو لا يطلب إليهم بطبيعة الحال أن يطعموه -سبحانه- أو يرزقوه. حين يكلفهم إنفاق هذا المال لمحتاجيه، والقيام بحق المحرومين فيه: (ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين).. وإذن لا يكون حافز المؤمن للعمل وبذل الجهد في الخلافة هو الحرص على تحصيل الرزق. بل يكون الحافز هو تحقيق معنى العبادة، الذي يتحقق ببذل أقصى الجهد والطاقة. ومن ثم يصبح قلب الإنسان معلقا بتحقيق معنى العبادة في الجهد، طليقا من التعلق بنتائج الجهد.. وهي مشاعر كريمة لا تنشأ إلا في ظل هذا التصوير الكريم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} تقرير لمعنى {إلا ليعبدون} بإبطال بعض العلل والغايات التي يقصدها الصانعون شيئاً يصنعونه أو يتخذونه، فإن المعروف في العرف أن من يتخذ شيئاً إنما يتخذه لنفع نفسه، وليست الجملة لإِفادة الجانب المقصور دُونَه بصيغة القصر لأن صيغة القصر لا تحتاج إلى ذكر الضد. ولا يَحسن ذكر الضد في الكلام البليغ.
فقوله: {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} كناية عن عدم الاحتياج إليهم لأن أشد الحاجات في العرف حاجة الناس إلى الطعام واللباس والسكن وإنما تحصل بالرزق وهو المال، فلذلك ابتدئ به ثم عطف عليه الإِطعام، أي إعطاء الطعام لأنه أشد ما يحتاج إليه البشر، وقد لا يَجده صاحب المال إذا قحط الناس فيحتاج إلى من يسلفه الطعامَ أو يُطعمه إياه، وفي هذا تعريض بأهل الشرك إذ يُهدون إلى الأصنام الأموال والطعام تتلقاه منهم سدنة الأصنام.
والرزق هنا: المال كقوله تعالى: {فابتغوا عند الله الرزق} [العنكبوت: 17] وقوله: {اللَّه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} [الرعد: 26] وقوله: {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه اللَّه} [الطلاق: 7]، ويطلق الرزق على الطعام كقوله تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} [مريم: 62] ويمنع من إرادته هنا عطف {وما أريد أن يطعمون}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لأني الإله الذي خلق الرزق كله، فليس لأحدٍ من الخلق شيء منه إلا من خلال ما يرزقهم منه، ولا معنى للطعام في معنى الله، ولا معنى لأن يطعمه أحد من خلقه. وإذا كانوا يعتبرون الأمر الإلهي بالإنفاق على الآخرين يعني عطاءً لله، فعليهم أن يروا حقيقة ذلك، كأمر يعود إليهم باعتباره تجسيداً لإنسانيتهم مما ترجع فائدته إليهم وإلى الحياة من حولهم...