ويختم هذه الجولة بعد هذا الإيقاع العجيب ، بصفة الله التي بها الإطلاع والرقابة على القلوب :
( عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ) . .
فكل شيء مكشوف لعلمه ، خاضع لسلطانه ، مدبر بحكمته . كي يعيش الناس وهم يشعرون بأن عين الله تراهم ، وسلطانه عليهم ، وحكمته تدبر الأمر كله حاضره وغائبه . ويكفي أن يستقر هذا التصور في القلوب ، لتتقي الله وتخلص له وتستجيب .
قوله تعالى : " عالم الغيب والشهادة " أي ما غاب وحضر . وهو " العزيز " أي الغالب القاهر . فهو من صفات الأفعال ، ومنه قوله عز وجل : " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم{[15060]} " [ الجاثية : 2 ] . أي من الله القاهر المحكم خالق الأشياء . وقال الخطابي : وقد يكون بمعنى نفاسة القدر ، يقال منه : عز يعز ( بكسر العين ) فيتناول معنى العزيز على هذا أنه لا يعادل شيء وأنه لا مثل له . والله أعلم . " الحكيم " في تدبير خلقه . وقال ابن الأنباري : " الحكيم " هو المحكم لخلق الأشياء ، صرف عن مفعل إلى فعيل ، ومنه قوله عز وجل : " الر تلك آيات الكتاب الحكيم{[15061]} " [ يونس : 1 ] معناه المحكم ، فصرف عن مفعل إلى فعيل . والله أعلم .
ولما كان الحليم قد يتهم في حلمه بأن ينسب إلى الجهل بالذنب أو بمقداره قال : { عالم الغيب } وهو ما غاب عن الخلق كلهم{[65905]} فيشمل ما هو داخل القلب مما تؤثره الجبلة ولا علم لصاحب القلب به فضلاً عن غيره . ولما كان قد يظن أنه لا يلزم من علم ما غاب علم ما شهد ، أو يظن أن العلم إنما يتعلق بالكليات ، قال موضحاً أن{[65906]} علمه بالعالمين{[65907]} بكل من الكليات والجزئيات قبل الكون وبعده على حد سواء : { والشهادة } وهو كل ما ظهر فكان بحيث يعلمه الخلق ، وهذا الوصف داع إلى الإحسان من حيث إنه يوجب للمؤمن ترك ظاهر الاسم وباطنه وكل قصور وفتور وغفلة وتهاون فيعبد الله كأنه يراه .
ولما شمل ذلك كل ما غاب عن الخلق وما لم يغب عنهم{[65908]} فلم يبق إلا أن يتوهم أن تأخير العقوبة للعجز قال : { العزيز } أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء . ولما كان ذلك قد يكون لأمر آخر لا يمدح عليه قال : { الحكيم * } أي أنه ما أخره إلا لحكمة بالغة يعجز عن إدراكها الخلائق ، وقد أقام الخلائق في طاعته بالجري تحت إرادته ، وتارة يوافق ذلك أمره فيسمى طاعة . وتارة يخالف فيسمى معصية ، فمن أراد أتم نعمته عليه بالتوفيق للطاعة بموافقته{[65909]} أمره بإحاطة{[65910]} علمه والإتقان في التدبير ببالغ حكمته وإدامة ذلك وحفظه عن كل آفة{[65911]} بباهر عزته ، ومن أراد منعه{[65912]} ذلك{[65913]} بذلك أيضاً والكل {[65914]}تسبيح له{[65915]} سبحانه بإفادة أنه الواحد القهار ،
وقد أحاط أول الجمعة بهذه{[1]} السورة أولها{[2]} وآخرها ، فجاءت هذه شارحة له{[3]} وكاشفة عنه{[4]} على وجه أفخم لأن مقصود هذه نتيجة مقصد تلك ، وقد رجع - بالتنزه عن شوائب النقص والاختصاص بجميع صفات الكمال وشمول القدرة للخق وإحاطة العلم بأحوال الكافر والمؤمن - على افتتاحها حسن ختامها ، وعلم علماً ظاهراً جلالة انتظامها{[5]} ، و{[6]}بداعة اتساق{[7]} جميع آيها وبراعة التئامها - والله الموفق للصواب{[8]} .
قوله : { عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم } الله عليم بالظاهر والباطن ، ويستوي في علمه وإحاطته السر والعلن . وهو سبحانه القوي الذي لا يغلب ، الحكيم في تدبيره وتقديره وتصرفه في خلقه{[4558]} .