{ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا } أي : تدور كاسات الرحيق والخمر عليهم ، ويتعاطونها فيما بينهم ، وتطوف عليهم الولدان المخلدون بأكواب وأباريق وكأس { لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ } أي : ليس في الجنة كلام لغو ، وهو الذي لا فائدة فيه ولا تأثيم ، وهو الذي فيه إثم ومعصية ، وإذا انتفى الأمران ، ثبت الأمر الثالث ، وهو أن كلامهم فيها سلام طيب طاهر ، مسر للنفوس ، مفرح للقلوب ، يتعاشرون أحسن عشرة ، ويتنادمون أطيب المنادمة ، ولا يسمعون من ربهم ، إلا ما يقر أعينهم ، ويدل على رضاه عنهم [ ومحبته لهم ] .
قوله تعالى : { يتنازعون } يتعاطون ويتناولون ، { فيها كأساً لا لغو فيها } وهو الباطل ، وروي ذلك عن قتادة ، وقال مقاتل بن حيان : لا فضول فيها . وقال سعيد بن المسيب : لا رفث فيها . وقال ابن زيد : لا سباب ولا تخاصم فيها . وقال القتيبي : لا تذهب عقولهم فيلغوا ويرفثوا ، { ولا تأثيم } أي : لا يكون منهم ما يؤثمهم . قال الزجاج : لا يجري بينهم ما يلغي ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا بشربة الخمر وقيل : لا يأثمون في شربها .
" يتنازعون فيها كأسا " أي يتناولها بعضهم من بعض وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة . والكأس : إناء الخمر وكل إناء مملوء من شراب وغيره ، فإذا فرغ لم يسم كأسا وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الأخطل :
وشاربٍ مُرْبِحٍ بالكأس نادمني *** لا بالحضور ولا فيها بِسَوَّارِ{[14301]}
نازعتُه طيب الرَّاحِ الشَّمُولِ وقد *** صاح الدجاج وحانت وَقْعَةُ السَّارِي
فلما تنازعنا الحديث وأَسْمَحَتْ *** هَصَرْتُ بِغُصْنِ ذي شَمَارِيخَ مَيَّالِ
وقد مضى هذا في " والصافات{[14302]} " . " لا لغو فيها " أي في الكأس أي لا يجري بينهم لغو " ولا تأثيم " ولا ما فيه إثم . والتأثيم تفعيل من الإثم ، أي تلك الكأس لا تجعلهم آثمين لأنه مباح لهم . وقيل : " لا لغو فيها " أي في الجنة . قال ابن عطاء : أي لغو يكون في مجلس محله جنة عدن ، وسقاتهم الملائكة ، وشربهم على ذكر الله ، وريحانهم وتحيتهم من عند الله ، والقوم أضياف الله ! " ولا تأثيم " أي ولا كذب ، قاله ابن عباس . الضحاك : يعني لا يكذب بعضهم بعضا . وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو : " لا لغو فيها ولا تأثيم " بفتح آخره . الباقون بالرفع والتنوين . وقد مضى هذا في " البقرة{[14303]} " عند قوله تعالى : " ولا خلة ولا شفاعة " [ البقرة : 254 ] والحمد لله .
ولما كان هذا النعيم العظيم المقيم يدعو إلى المعاشرة ، بالقرينة العاطرة ، بين أن ذلك حالهم اللازمة الظاهرة ، من الخصال اللائقة الطاهرة ، فقال : { يتنازعون } أي يشربون متجاذبين مجاذبة الملاعبة لفرط المحبة والسرور وتحلية المصاحبة { فيها كأساً } أي خمراً من رقة حاشيتها تكاد أن لا ترى في كأسها . ولما كان في خمر الدنيا غوائل نفاها عنها فقال : { لا لغو } أي سقط مما يضر ولا ينفع { فيها } أي في تنازعها ولا بسبها لأنها لا تذهب بعقولهم ولا يتكلمون إلا بالحسن الجميل { ولا تأثيم * } أي ولا شيء فيها مما يلحق شرَّابها إثما ولا يسوغ نسبه .
قوله : { يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم } أي يتداولون فيما بينهم في الجنة كؤوس الشراب المستلذ المستطاب { لا لغو فيها ولا تأثيم } أي لا يقع بينهم عند الشراب لغو - وهو الباطل من القول الذي لا خير فيه - ولا تأثيم - وهو الكذب - فلا يتسابّون في مجالس شرابهم ولا يتصايحون بالفاحش البذيّ من القول ، كعادة المخمورين السكارى من أهل الشراب في الدنيا .