في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا} (3)

( يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا . إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا . إن لك في النهار سبحا طويلا ، واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا . رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) . .

( يا أيها المزمل . . قم . . ) . . إنها دعوة السماء ، وصوت الكبير المتعال . . قم . . قم للأمر العظيم الذي ينتظرك ، والعبء الثقيل المهيأ لك . قم للجهد والنصب والكد والتعب . قم فقد مضى وقت النوم والراحة . . قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد . .

وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه [ صلى الله عليه وسلم ] من دفء الفراش ، في البيت الهادئ والحضن الدافئ . لتدفع به في الخضم ، بين الزعازع والأنواء ، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء .

إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا ، ولكنه يعيش صغيرا ويموت صغيرا . فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير . . فماله والنوم ? وماله والراحة ? وماله والفراش الدافئ ، والعيش الهادئ ? والمتاع المريح ? ! ولقد عرف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حقيقة الأمر وقدره ، فقال لخديجة - رضي الله عنها - وهي تدعوه أن يطمئن وينام : " مضى عهد النوم يا خديجة " ! أجل مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق !

( يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ) . .

إنه الإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة . . قيام الليل . أكثره أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه . وأقله ثلث الليل . . قيامه للصلاة وترتيل القرآن . وهو مد الصوت به وتجويده . بلا تغن ولا تطر ولا تخلع في التنغيم .

وقد صح عن وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالليل أنه لم يتجاوز إحدى عشرة ركعة . ولكنه كان يقضي في هذه الركعات ثلثي الليل إلا قليلا ، يرتل فيه القرآن ترتيلا .

روى الإمام أحمد في مسنده قال : حدثنا يحيى بن سعيد - هو ابن أبي عروبة - عن قتادة ، عن زرارة ابن أوفى ، عن سعيد بن هشام . . أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال : ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? قال : نعم . قال : ائت عائشة فسلها ، ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك . . . ثم يقول سعيد بن هشام : قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : ألست تقرأ القرآن ? قلت : بلى . قالت : فإن خلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان القرآن . فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي قيام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن قيام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : ألست تقرأ هذه السورة : ( يا أيها المزمل )? قلت : بلى . قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ؛ فقام رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم . وأمسك الله ختامها في السماء اثني عشر شهرا . ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة . . فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : كنا نعد له سواكه وطهوره ، فيبعثه الله كما شاء أن يبعثه من الليل ، فيتسوك ، ثم يتوضأ ، ثم يصلي ثمان ركعات لا يجلس فيهن ، إلا عند الثامنة ، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ، ثم ينهض وما يسلم ، ثم يقوم ليصلي التاسعة ، ثم يقعد فيذكر الله وحده ، ثم يدعوه ، ثم يسلم تسليما يسمعنا . ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني ، فلما أسن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأخذ اللحم أوتر بسبع ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك تسع يا بني . وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها . وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من نهار اثنتي عشرة ركعة . ولا أعلم نبي الله [ صلى الله عليه وسلم ] قرأ القرآن كله في ليلة حتى أصبح ، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان . . . "

وكان هذا الإعداد للقول الثقيل الذي سينزله الله عليه . .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا} (3)

{ نصفه } بدل من " قليلا " ؛ أي فلا تقم هذا النصف للصلاة واتخذه للنوم والراحة . ووصف بالقلة للإشارة إلى أن النصف الآخر العامر بالقيام للصلاة بمنزلة الأكثر في الثواب والفضيلة بالنسبة لهذا النصف الخالي منه . { أو انقص منه } أن من هذا النصف الخالي من القيام{ قليلا } حتى يصير ثلثا ، وتكون مدة القيام الثلثين

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا} (3)

" نصفه أو انقص منه قليلا " فكان ذلك تخفيفا إذ لم يكن زمان القيام محدودا ، فقام الناس حتى ورمت أقدامهم ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : " علم أن لن تحصوه " [ المزمل : 20 ] . وقال الأخفش : " نصفه " أي أو نصفه ؛ يقال : أعطه درهما درهمين ثلاثة : يريد : أو درهمين أو ثلاثة . وقال الزجاج : " نصفه " بدل من الليل و " إلا قليلا " استثناء من النصف . والضمير في " منه " و " عليه " للنصف . المعنى : قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد عليه قليلا إلى الثلثين ، فكأنه قال : قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه . وقيل : إن " نصفه " بدل من قوله : " قليلا " وكان مخيرا بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه ، وبين الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه ، كأن تقدير الكلام : قم الليل إلا نصفه ، أو أقل من نصفه ، أو أكثر من نصفه . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول ، فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له ، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر ) . ونحوه عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا وهو يدل على ترغيب قيام ثلثي الليل . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مضى شطر الليل - أو ثلثاه - ينزل الله . . . ) الحديث . رواه من طريقين عن أبي هريرة هكذا على الشك . وقد جاء في كتاب النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول ، ثم يأمر مناديا يقول : هل من داع يستجاب له ؟ هل من مستغفر يغفر له ؟ هل من سائل يعطى ؟ ) صححه أبو محمد عبدالحق ، فبين هذا الحديث مع صحته معنى النزول ، وأن ذلك يكون عند نصف الليل . وخرج ابن ماجة من حديث ابن شهاب ، عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة فيقول من يسألني فأعطيه ؟ من يدعوني فأستجيب له ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ حتى يطلع الفجر ) . فكانوا يستحبون صلاة آخر الليل على أوله . قال علماؤنا : وبهذا الترتيب انتظم الحديث والقرآن ، فإنهما يبصران من مشكاة واحدة . وفي الموطأ وغيره من حديث ابن عباس : بت عند خالتي ميمونة حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءا خفيفا . وذكر الحديث .

اختلف العلماء في الناسخ للأمر بقيام الليل ، فعن ابن عباس وعائشة أن الناسخ للأمر بقيام الليل قوله تعالى : " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل " [ المزمل : 20 ] إلى آخر السورة . وقيل قوله تعالى : " علم أن لن تحصوه " [ المزمل : 20 ] .

وعن ابن عباس أيضا : هو منسوخ بقوله تعالى : " علم أن سيكون منكم مرضى " [ المزمل : 20 ] . وعن عائشة أيضا والشافعي ومقاتل وابن كيسان : هو منسوخ بالصلوات الخمس . وقيل الناسخ لذلك قوله تعالى : " فاقرؤوا ما تيسر منه " [ المزمل : 20 ] . قال أبو عبد الرحمن السلمي : لما نزلت : " يا أيها المزمل " قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ، ثم نزل قوله تعالى : " فاقرؤوا ما تيسر منه " [ المزمل : 20 ] .

قال بعض العلماء : وهو فرض نسخ به فرض ، كان على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لفضله ، كما قال تعالى : " ومن الليل فتهجد به نافلة لك " [ الإسراء : 79 ] .

قلت : القول الأول يعم جميع هذه الأقوال ، وقد قال تعالى : " وأقيموا الصلاة " [ المزمل : 20 ] فدخل فيها قول من قال : إن الناسخ الصلوات الخمس . وقد ذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو على قدر حلب شاة . وعن الحسن أيضا أنه قال في هذه الآية : الحمد لله تطوع بعد الفريضة . وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ؛ لما جاء في قيامه من الترغيب والفضل في القرآن والسنة .

وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أجعل للنبي صلى الله عليه وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل ، فتسامع الناس به ، فلما رأى جماعتهم كره ذلك ، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ، فدخل البيت كالمغضب ، فجعلوا يتنحنحون ويتفلون فخرج إليهم فقال : ( أيها الناس اكلفوا{[15501]} من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل من الثواب ، حتى تملوا من العمل ، وإن خير العمل أدومه وإن قل ) . فنزلت : " يا أيها المزمل " فكتب عليهم ، فأنزل بمنزلة الفريضة ، حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق به ، فمكثوا ثمانية أشهر ، فرحمهم الله وأنزل : " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل " [ المزمل : 20 ] فردهم الله إلى الفريضة ، ووضع عنهم قيام الليل إلا ما تطوعوا به .

قلت : حديث عائشة هذا ذكره الثعلبي ، ومعناه ثابت في الصحيح إلى قوله : ( وإن قل ) وباقيه يدل على أن قوله تعالى : " يا أيها المزمل " نزل بالمدينة وأنهم مكثوا ثمانية أشهر يقومون . وقد تقدم عنها في صحيح مسلم : حولا . وحكى الماوردي عنها قولا ثالثا وهو ستة عشر شهرا ، لم يذكر غيره عنها . وذكر عن ابن عباس أنه كان بين أول المزمل وآخرها سنة ؛ قال : فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضا عليه . وفي نسخة عنه قولان : أحدهما : أنه كان فرضه عليه إلى أن قبضه الله تعالى . الثاني : أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته . وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان : أحدهما : المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين ، يريد قول ابن عباس حولا ، وقول عائشة ستة عشر شهرا . الثاني : أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ زيادة في التكليف ، ليميزه بفعل الرسالة . قاله ابن جبير .

قلت : هذا خلاف ما ذكره الثعلبي عن سعيد بن جبير حسب ما تقدم فتأمله . وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى .


[15501]:أكلفوا: تحملوا: النهاية لابن الأثير.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا} (3)

ولما كان الليل اسماً لما بين غروب الشمس وطلوع الفجر ، وكان قيامه في غاية المشقة ، حمل سبحانه من ثقل ذلك ، فقال مبيناً لمراده{[69385]} بما حط عليه الكلام بعد الاستثناء ، ومبدلاً من جملة المستثنى والمستثنى منه{[69386]} : { نصفه } أي الليل ، فعلم أن المراد بالقليل المستثنى النصف ، وسماه قليلاً بالنسبة إلى جميع الليل ، وبالنسبة إلى النصف الذي وقع إحياؤه ، لأن ما يلي بالعمل أكثر مما لا عمل فيه ، ويجوز أن يكون " نصفه " بدلاً من الليل ، فيكون كأنه قيل : قم نصف الليل إلا قليلاً وهو السدس أو انقص منه إلى الربع ، وجاءت العبارة هكذا لتفيد أن من قام ثلث{[69387]} الليل بل ربعه فما فوقه كان محيياً لليل كله .

ولما كانت الهمم مختلفة بالنسبة إلى الأشخاص وبالنسبة إلى الأوقات قال : { أو انقص منه } أي هذا النصف الذي أمرت بقيامه ، أو من النصف المستثنى منه القليل على الوجه الثاني وهو الثلث { قليلاً * }{[69388]} فلا تقمه حتى لو أحييت ثلث الليل على الوجه{[69389]} الأول أو ربعه على الوجه الثاني كنت محيياً له كله-{[69390]} في{[69391]} فضل الله بالتضعيف


[69385]:من ظ و م، وفي الأصل: المراد.
[69386]:زيد في الأصل: فقال، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[69387]:في ظ: سدس.
[69388]:زيد في الأصل: أي، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[69389]:زيد من ظ و م.
[69390]:زيد من ظ و م.
[69391]:من ظ و م، وفي الأصل: على.