الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا} (3)

قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ } : للناس في هذا كلامٌ كثيرٌ ، واستدلالٌ على جوازِ استثناءِ الأكثرِ والنصفِ ، واعتراضاتٌ وأجوبةٌ عنها . وها أنا أذكرُ ذلك مُحَرِّراً له بعون اللهِ تعالى .

اعلم أنَّ في هذه الآيةِ ثمانيةَ أوجهٍ أحدُها : أنَّ " نصفَه " بدلٌ من " الليلَ " بدلُ بعضٍ من كلٍ . و " إلاَّ قليلاً " استثناءٌ من النصفِ كأنه قيل : قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ . والضميرُ في " مِنْه " و " عليه " عائدٌ على النصفِ .

والمعنى : التخييرُ بين أمرَيْنِ : بينَ أَنْ يقومَ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ على البَتِّ ، وبين أَنْ يَخْتارَ أحدَ الأمرَيْن ، وهما : النُّقْصانُ من النصفِ والزيادةُ عليه ، قاله الزمخشريُّ : وقد ناقَشَه الشيخ : بأنه يَلْزَمُه تكرارٌ في اللفظِ ؛ إذ يَصير التقديرُ : قُم نِصفَ الليلِ إلاَّ قليلاً مِنْ نِصْفِ الليل ، أو انقُصْ مِنْ نصفِ الليل . قال : " وهذا تركيبٌ يُنَزَّهُ القرآنُ عنه " . قلت : الوجهُ فيه إشكالٌ ، لا من هذه الحيثية فإنَّ الأمرَ فيها سهلٌ ، بل لمعنىً آخرَ [ سأَذْكرهُ قريباً إنْ شاء الله ] .

وقد جعل أبو البقاءِ هذا الوجهَ مرجوحاً فإنه قال : " والثاني هو بدلٌ مِنْ قليلاً يعني النصف قال : " وهو أَشبهُ بظاهرِ الآية لأنه قال : " أو انقُصْ منه أو زِدْ عليه " ، والهاءُ فيهما للنِّصْفِ . فلو كان الاستثناءُ من النصف لصار التقديرُ : قُم نصفَ الليل إلاَّ قليلاً أو انقُصْ منه قليلاً ، والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّر ، فالنقصانُ منه لا يُعْقَلُ " . قلت : الجوابُ عنه : أنَّ بعضَهم قد عَيَّنَ هذا القليلَ : فعن الكلبيِّ ومقاتلٍ : هو الثلثُ ، فلم يكن القليلُ غيرَ مقدَّرٍ . ثم إنَّ في قولِه تناقضاً لأنه قال : " والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّرٍ ، فالنقصانُ منه [ لا يُعْقَل " ] فأعاد الضميرَ على القليل ، وفي الأولِ أعادَه على النصفِ .

ولقائلٍ أن يقولَ : قد يَنْقَدحُ هذا الوجهُ بإشكالٍ قويٍّ : وهو أنَّه يَلْزَمُ منه تكرارُ المعنى الواحدِ : وذلك أنَّ قولَه : " قُمْ نِصْف الليلِ إلاَّ قليلاً " بمعنى : انقُصْ مِنْ الليل ؛ لأنَّ ذلك القليل هو بمعنى النقصانِ ، وأنت إذا قلت : قُمْ نصفَ الليلِ إلاَّ القليلَ مِن النصفِ ، وقُمْ نصفَ الليل ، أو انقُصْ من النصفِ ، وجدتَهما بمعنىً . وفيه دقةٌ فتأمَّلْه ، ولم يَذْكُرِ الحوفيُّ غيرَ هذا الوجهِ المتقدِّمِ ، فقد عَرَفْتَ ما فيه .

ومِمَّنْ ذَهَبَ إليه أبو إسحاقَ فإنه قال : " نصفَه " بدلٌ من " الليل " و " إلاَّ قليلاً " استثناءٌ من النصفِ . والضميرُ في " منه " و " عليه " عائدٌ للنصف . المعنى : قُمْ نصفَ الليل أو انقُصْ من النصفِ قليلاً إلى الثلثِ ، أو زِدْ عليه قليلاً إلى الثلثِ ، أو زِد عليه قليلاً إلى الثلثَيْن ، فكأنَّه قال : قُمْ ثلثَيْ الليلِ أو نصفَه أو ثلثَه " .

قلت : والتقديراتُ التي يُبْرزونها ظاهرةٌ حسنةٌ ، إلاَّ أنَّ التركيبَ لا يُساعِدُ عليها ، لِما عَرَفْتَ من الإِشكال الذي ذكَرْتُه لك آنفاً .

الثاني : أَنْ يكونَ " نصفَه " بدلاً مِنْ " قليلاً " ، وإليه ذهب الزمخشريُّ وأبو البقاء وابنُ عطية . قال الزمخشريُّ : " وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَ " نصفَه " بدلاً مِنْ " قليلاً " ، وكان تخييراً بين ثلاثٍ : بين قيامِ النصفِ بتمامِه ، وبين قيامِ الناقصِ منه ، وبين قيامِ الزائدِ عليه ، وإنما وَصَفَ النصفَ بالقِلَّةِ بالنسبة إلى الكلِّ " . قلت : وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أَشْبَهَ مِنْ جَعْلِه بدلاً من " الليل " كما تقدَّمَ .

إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض هذا فقال : " وإذا كان " نصفَه " بدلاً مِنْ " إلاَّ قليلاً " فالضميرُ في " نصفَه " : إمَّا أَنْ يعودَ على المبدلِ منه أو على المستثنى منه ، وهو " الليلَ " ، لا جائِزٌ أَنْ يعودَ على المبدلِ منه ؛ لأنه يَصيرُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ ؛ إذ التقديرُ : إلاَّ قليلاً نصفَ القليل ، وهذا لا يَصِحُّ له معنىً البتةَ ، وإن عاد الضميرُ على الليل فلا فائدةَ في الاستثناءِ من " الليل " ، إذ كان يكونُ أَخْصَرَ وأوضحَ وأَبْعَدَ عن الإِلباس : قُمِ الليلَ نصفَه . وقد أَبْطَلْنا قولَ مَنْ قال : " إلاَّ قليلاً " استثناءٌ من البدلِ ، وهو " نصفَه " ، وأنَّ التقديرَ : قُم الليلَ نصفَه إلاَّ قليلاً منه ، أي : من النصفِ . وأيضاً : ففي دَعْوى أنَّ " نصفَه " بدلٌ مِنْ " إلاَّ قليلاً " والضميرُ في " نِصفَه " عائدٌ على " الليل " ، إطلاقُ القليلِ على النصفِ ، ويَلْزَمُ أيضاً أَنْ يصيرَ التقديرُ : إلاَّ نصفَه فلا تَقُمْه/ ، أو انقُصْ من النصفِ الذي لا تقومه وهذا معنىً لا يَصِحُّ وليس المرادَ من الآيةِ قطعاً " .

قلت : نقولُ بجواز عَوْدِه على كلٍ منهما ، ولا يَلْزَمُ محذورٌ . أمَّا ما ذكره : مِنْ أنه يكونُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ فممنوعٌ ، بل هو استثناءُ معلومٍ من معلومٍ ، لأنَّا قد بَيَّنَّا أنَّ القليل قَدْرٌ معيَّنٌ وهو الثلثُ ، والليل ، فليس بمجهولٍ . وأيضاً فاستثناءُ المُبْهَمِ قد وَرَدَ . قال تعالى : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] . وقال تعالى : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 249 ] وكان حقُّه أَنْ يقولَ : لأنه بدلُ مجهولٍ مِن مجهولٍ . وأمَّا ما ذكره مِنْ أَنَّ أَخْصَرَ منه وأَوْضَحَ كيتَ وكيت : أمَّا الأخْصَرُ فمُسَلَّمٌ . وأمَّا أنه مُلْبِس فممنوعٌ ، وإنما عَدَلَ عن اللفظِ الذي ذكَرَه لأنه أَبْلَغ .

وبهذا الوجهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قال بجوازِ استثناءِ النصفِ والأكثرِ . ووجهُ الدلالةِ على الأولِ : أنَّه جَعَلَ " قليلاً " مستثنى من " الليل " ، ثم فَسَّر ذلك القليلَ بالنصفِ فكأنه قيل : قُمِ الليلَ إلاَّ نصفَه .

ووَجْهُ الدلالةِ على الثاني : أنَّه عَطَفَ " أو زِدْ عليه " على " انقُصْ منه " فيكونُ قد استثنى الزائدَ على النصفِ ؛ لأنَّ الضميرَ في " مِنْه " ، وفي " عليه " عائدٌ على النصفِ . وهو استدلالٌ ضعيفٌ ؛ لأنَّ الكثرة إنما جاءَتْ بالعطفِ ، وهو نظيرُ أَنْ تقول : " له عندي عشرةٌ إلاَّ خمسةً ودرهماً ودرهماً " فالزيادةُ على النصفِ بطريقِ العطفِ لا بطريقِ أن الاستثناءِ أخرجَ الأكثرَ بنفسِه .

الثالث : أنَّ " نصفَه " بدلٌ من " الليلَ " أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأولِ ، إلاَّ أنَّ الضميرَ في " منه " و " عليه " عائدٌ على الأقلِّ من النصف . وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال : " وإنْ شِئْتَ قلت : لَمَّا كان معنى { قُمِ الْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ } إذا أَبْدَلْتَ النصفَ من " الليل " : قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليل ، رَجَعَ الضميرُ في " منه " و " عليه " إلى الأقلِّ من النصفِ ، فكأنه قيل : قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ أو قُمْ أنقصَ مِنْ ذلك الأقلِّ أو أزيدَ مِنْه قليلاً ، فيكون التخييرُ فيما وراءَ النصفِ بينه وبينَ الثُّلُثِ " .

الرابع : أَنْ يكونَ " نصفَه " بدلاً مِنْ " قليلاً " كما تقدَّمَ ، إلاَّ أنَّك تجعلُ القليلَ الثاني رُبْعَ الليلِ . وقد أوضح الزمخشريُّ هذا أيضاً فقال : " ويجوز إذا أَبْدَلْتَ " نصفَه " مِنْ " قليلاً " وفَسَّرْتَه به أَنْ تجعلَ " قليلاً " الثاني بمعنى نصفِ النصفِ ، بمعنى الربع ، كأنه قيل : أو انقص منه قليلاً نصفَه ، وتجعلَ المزيدَ على هذا القليل أعني الربعَ نصفَ الربع ، كأنه قيل : أو زِدْ عليه قليلاً نصفَه . ويجوزُ أَنْ تجعلَ الزيادةَ لكونِها مُطْلَقَةً تتمَّةَ الثلثِ فيكون تخييراً بين النصفِ والثلثِ والرُّبُع " انتهى . وهذه الأوجهُ التي حَكَيْتُها عن أبي القاسم مِمَّا يَشْهدُ له باتِّساعِ عِلْمِه في كتاب الله . ولَمَّا اتسَعَتْ عبارتُه على الشيخ قال : " وما أوسعَ خيالَ هذا الرجلِ ! ! فإنه يُجَوِّزُ ما يَقْرُبُ وما يَبْعُدُ " . قلت : وما ضَرَّ الشيخَ لو قال : وما أوسعَ عِلْمَ هذا الرجلِ ! ! .

الخامس : أَنْ يكونَ " إلاَّ قليلاً " استثناءً مِنْ القيامِ ، فتجعلَ الليلَ اسم جنسٍ ثم قال : " إلاَّ قليلاً " أي : إلاَّ اللياليَ التي تترُكُ قيامَها عند العُذْرِ البيِّن ونحوِه : وهذا النَّظر يَحْسُنُ مع القولِ بالنَّدْبِ ، قاله ابنُ عطية ، احتمالاً مِنْ عندِه . وفي عبارته : " التي تُخِلُّ بقيامِها " فأَبْدَلْتُها : " التي تَتْرُكُ قيامَها " . وفي الجملة فهذا خلافُ الظاهرِ ، وتأويلٌ بعيدٌ .

السادس : قال الأخفش : " إنَّ الأصل : قُم الليلَ إلاَّ قليلاً أو نصفَه ، قال : " كقولك : أَعْطِه درهماً درهَمْين ثلاثةً " .

أي : أو درهمَيْن أو ثلاثةً " . وهذا ضعيفٌ جداً ؛ لأن فيه حَذْفَ حرفِ العطفِ ، وهو ممنوعٌ لم يَرِدْ منه إلاَّ شَيْءٌ شاذٌّ يمكن تأويلُه كقولِهم : " أكلْتُ لحماً سَمَكاً تَمْراً " . وقول الآخر :

كيف أَصْبَحْتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا *** يَزْرَعُ الوُدَّ في فؤادِ الكريم

أي : لحماً وسمكاً وتمراً ، وكذا كيف أصبَحْتَ وكيف أمسَيْتَ . وقد خَرَّجَ الناس هذا على بَدَلِ البَداء .

السابع : قال التبريزيُّ : " الأمرُ بالقيام والتخييرُ في الزيادةِ والنقصان ، وقعَ على الثلثَيْن مِنْ آخرِ الليلِ ؛ لأنَّ الثلثَ الأولَ وقتُ العَتَمَةِ ، والاستثناءُ واردٌ على المأمورِ به ، فكأنه قال : قُمْ ثُلُثي الليلِ إلاَّ قليلاً ، أي : ما دونَ نصفِه ، أو زِدْ عليه ، أي : على الثلثَيْنِ ، فكان التخيير في الزيادةِ والنقصانِ واقعاً على الثلثَيْن " وهو كلامٌ غريبٌ لا يَظْهَرُ من هذا التركيبِ .

الثامن : أنَّ " نصفَه " منصوبٌ على إضمارِ فِعْلٍ/ ، أي : قُمْ نصفَه ، حكاه مكيٌّ عن غيرِه ، فإنَّه قال : " نصفَه بدلٌ من " الليل " وقيل : انتصبَ على إضمارِ : قُمْ نصفَه " . قلت : وهذا في التحقيقِ هو وجهُ البدلِ الذي ذكرَه أولاً ؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ .