" نصفه أو انقص منه قليلا " فكان ذلك تخفيفا إذ لم يكن زمان القيام محدودا ، فقام الناس حتى ورمت أقدامهم ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : " علم أن لن تحصوه " [ المزمل : 20 ] . وقال الأخفش : " نصفه " أي أو نصفه ؛ يقال : أعطه درهما درهمين ثلاثة : يريد : أو درهمين أو ثلاثة . وقال الزجاج : " نصفه " بدل من الليل و " إلا قليلا " استثناء من النصف . والضمير في " منه " و " عليه " للنصف . المعنى : قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد عليه قليلا إلى الثلثين ، فكأنه قال : قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه . وقيل : إن " نصفه " بدل من قوله : " قليلا " وكان مخيرا بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه ، وبين الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه ، كأن تقدير الكلام : قم الليل إلا نصفه ، أو أقل من نصفه ، أو أكثر من نصفه . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول ، فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له ، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر ) . ونحوه عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا وهو يدل على ترغيب قيام ثلثي الليل . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مضى شطر الليل - أو ثلثاه - ينزل الله . . . ) الحديث . رواه من طريقين عن أبي هريرة هكذا على الشك . وقد جاء في كتاب النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول ، ثم يأمر مناديا يقول : هل من داع يستجاب له ؟ هل من مستغفر يغفر له ؟ هل من سائل يعطى ؟ ) صححه أبو محمد عبدالحق ، فبين هذا الحديث مع صحته معنى النزول ، وأن ذلك يكون عند نصف الليل . وخرج ابن ماجة من حديث ابن شهاب ، عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة فيقول من يسألني فأعطيه ؟ من يدعوني فأستجيب له ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ حتى يطلع الفجر ) . فكانوا يستحبون صلاة آخر الليل على أوله . قال علماؤنا : وبهذا الترتيب انتظم الحديث والقرآن ، فإنهما يبصران من مشكاة واحدة . وفي الموطأ وغيره من حديث ابن عباس : بت عند خالتي ميمونة حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءا خفيفا . وذكر الحديث .
اختلف العلماء في الناسخ للأمر بقيام الليل ، فعن ابن عباس وعائشة أن الناسخ للأمر بقيام الليل قوله تعالى : " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل " [ المزمل : 20 ] إلى آخر السورة . وقيل قوله تعالى : " علم أن لن تحصوه " [ المزمل : 20 ] .
وعن ابن عباس أيضا : هو منسوخ بقوله تعالى : " علم أن سيكون منكم مرضى " [ المزمل : 20 ] . وعن عائشة أيضا والشافعي ومقاتل وابن كيسان : هو منسوخ بالصلوات الخمس . وقيل الناسخ لذلك قوله تعالى : " فاقرؤوا ما تيسر منه " [ المزمل : 20 ] . قال أبو عبد الرحمن السلمي : لما نزلت : " يا أيها المزمل " قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ، ثم نزل قوله تعالى : " فاقرؤوا ما تيسر منه " [ المزمل : 20 ] .
قال بعض العلماء : وهو فرض نسخ به فرض ، كان على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لفضله ، كما قال تعالى : " ومن الليل فتهجد به نافلة لك " [ الإسراء : 79 ] .
قلت : القول الأول يعم جميع هذه الأقوال ، وقد قال تعالى : " وأقيموا الصلاة " [ المزمل : 20 ] فدخل فيها قول من قال : إن الناسخ الصلوات الخمس . وقد ذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو على قدر حلب شاة . وعن الحسن أيضا أنه قال في هذه الآية : الحمد لله تطوع بعد الفريضة . وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ؛ لما جاء في قيامه من الترغيب والفضل في القرآن والسنة .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أجعل للنبي صلى الله عليه وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل ، فتسامع الناس به ، فلما رأى جماعتهم كره ذلك ، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ، فدخل البيت كالمغضب ، فجعلوا يتنحنحون ويتفلون فخرج إليهم فقال : ( أيها الناس اكلفوا{[15501]} من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل من الثواب ، حتى تملوا من العمل ، وإن خير العمل أدومه وإن قل ) . فنزلت : " يا أيها المزمل " فكتب عليهم ، فأنزل بمنزلة الفريضة ، حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق به ، فمكثوا ثمانية أشهر ، فرحمهم الله وأنزل : " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل " [ المزمل : 20 ] فردهم الله إلى الفريضة ، ووضع عنهم قيام الليل إلا ما تطوعوا به .
قلت : حديث عائشة هذا ذكره الثعلبي ، ومعناه ثابت في الصحيح إلى قوله : ( وإن قل ) وباقيه يدل على أن قوله تعالى : " يا أيها المزمل " نزل بالمدينة وأنهم مكثوا ثمانية أشهر يقومون . وقد تقدم عنها في صحيح مسلم : حولا . وحكى الماوردي عنها قولا ثالثا وهو ستة عشر شهرا ، لم يذكر غيره عنها . وذكر عن ابن عباس أنه كان بين أول المزمل وآخرها سنة ؛ قال : فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضا عليه . وفي نسخة عنه قولان : أحدهما : أنه كان فرضه عليه إلى أن قبضه الله تعالى . الثاني : أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته . وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان : أحدهما : المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين ، يريد قول ابن عباس حولا ، وقول عائشة ستة عشر شهرا . الثاني : أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ زيادة في التكليف ، ليميزه بفعل الرسالة . قاله ابن جبير .
قلت : هذا خلاف ما ذكره الثعلبي عن سعيد بن جبير حسب ما تقدم فتأمله . وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.