الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا} (3)

" نصفه أو انقص منه قليلا " فكان ذلك تخفيفا إذ لم يكن زمان القيام محدودا ، فقام الناس حتى ورمت أقدامهم ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : " علم أن لن تحصوه " [ المزمل : 20 ] . وقال الأخفش : " نصفه " أي أو نصفه ؛ يقال : أعطه درهما درهمين ثلاثة : يريد : أو درهمين أو ثلاثة . وقال الزجاج : " نصفه " بدل من الليل و " إلا قليلا " استثناء من النصف . والضمير في " منه " و " عليه " للنصف . المعنى : قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد عليه قليلا إلى الثلثين ، فكأنه قال : قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه . وقيل : إن " نصفه " بدل من قوله : " قليلا " وكان مخيرا بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه ، وبين الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه ، كأن تقدير الكلام : قم الليل إلا نصفه ، أو أقل من نصفه ، أو أكثر من نصفه . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول ، فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له ، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر ) . ونحوه عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا وهو يدل على ترغيب قيام ثلثي الليل . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مضى شطر الليل - أو ثلثاه - ينزل الله . . . ) الحديث . رواه من طريقين عن أبي هريرة هكذا على الشك . وقد جاء في كتاب النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول ، ثم يأمر مناديا يقول : هل من داع يستجاب له ؟ هل من مستغفر يغفر له ؟ هل من سائل يعطى ؟ ) صححه أبو محمد عبدالحق ، فبين هذا الحديث مع صحته معنى النزول ، وأن ذلك يكون عند نصف الليل . وخرج ابن ماجة من حديث ابن شهاب ، عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة فيقول من يسألني فأعطيه ؟ من يدعوني فأستجيب له ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ حتى يطلع الفجر ) . فكانوا يستحبون صلاة آخر الليل على أوله . قال علماؤنا : وبهذا الترتيب انتظم الحديث والقرآن ، فإنهما يبصران من مشكاة واحدة . وفي الموطأ وغيره من حديث ابن عباس : بت عند خالتي ميمونة حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءا خفيفا . وذكر الحديث .

اختلف العلماء في الناسخ للأمر بقيام الليل ، فعن ابن عباس وعائشة أن الناسخ للأمر بقيام الليل قوله تعالى : " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل " [ المزمل : 20 ] إلى آخر السورة . وقيل قوله تعالى : " علم أن لن تحصوه " [ المزمل : 20 ] .

وعن ابن عباس أيضا : هو منسوخ بقوله تعالى : " علم أن سيكون منكم مرضى " [ المزمل : 20 ] . وعن عائشة أيضا والشافعي ومقاتل وابن كيسان : هو منسوخ بالصلوات الخمس . وقيل الناسخ لذلك قوله تعالى : " فاقرؤوا ما تيسر منه " [ المزمل : 20 ] . قال أبو عبد الرحمن السلمي : لما نزلت : " يا أيها المزمل " قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ، ثم نزل قوله تعالى : " فاقرؤوا ما تيسر منه " [ المزمل : 20 ] .

قال بعض العلماء : وهو فرض نسخ به فرض ، كان على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لفضله ، كما قال تعالى : " ومن الليل فتهجد به نافلة لك " [ الإسراء : 79 ] .

قلت : القول الأول يعم جميع هذه الأقوال ، وقد قال تعالى : " وأقيموا الصلاة " [ المزمل : 20 ] فدخل فيها قول من قال : إن الناسخ الصلوات الخمس . وقد ذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو على قدر حلب شاة . وعن الحسن أيضا أنه قال في هذه الآية : الحمد لله تطوع بعد الفريضة . وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ؛ لما جاء في قيامه من الترغيب والفضل في القرآن والسنة .

وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أجعل للنبي صلى الله عليه وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل ، فتسامع الناس به ، فلما رأى جماعتهم كره ذلك ، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ، فدخل البيت كالمغضب ، فجعلوا يتنحنحون ويتفلون فخرج إليهم فقال : ( أيها الناس اكلفوا{[15501]} من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل من الثواب ، حتى تملوا من العمل ، وإن خير العمل أدومه وإن قل ) . فنزلت : " يا أيها المزمل " فكتب عليهم ، فأنزل بمنزلة الفريضة ، حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق به ، فمكثوا ثمانية أشهر ، فرحمهم الله وأنزل : " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل " [ المزمل : 20 ] فردهم الله إلى الفريضة ، ووضع عنهم قيام الليل إلا ما تطوعوا به .

قلت : حديث عائشة هذا ذكره الثعلبي ، ومعناه ثابت في الصحيح إلى قوله : ( وإن قل ) وباقيه يدل على أن قوله تعالى : " يا أيها المزمل " نزل بالمدينة وأنهم مكثوا ثمانية أشهر يقومون . وقد تقدم عنها في صحيح مسلم : حولا . وحكى الماوردي عنها قولا ثالثا وهو ستة عشر شهرا ، لم يذكر غيره عنها . وذكر عن ابن عباس أنه كان بين أول المزمل وآخرها سنة ؛ قال : فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضا عليه . وفي نسخة عنه قولان : أحدهما : أنه كان فرضه عليه إلى أن قبضه الله تعالى . الثاني : أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته . وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان : أحدهما : المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين ، يريد قول ابن عباس حولا ، وقول عائشة ستة عشر شهرا . الثاني : أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ زيادة في التكليف ، ليميزه بفعل الرسالة . قاله ابن جبير .

قلت : هذا خلاف ما ذكره الثعلبي عن سعيد بن جبير حسب ما تقدم فتأمله . وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى .


[15501]:أكلفوا: تحملوا: النهاية لابن الأثير.