والقرآن يواجه هذه الخيلاء الشريرة بالتهديد والوعيد :
( أولى لك فأولى . ثم أولى لك فأولى ) . .
وهو تعبير اصطلاحي يتضمن التهديد والوعيد ، وقد أمسك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بخناق أبي جهل مرة ، وهزه ، وهو يقول له : ( أولى لك فأولى . ثم أولى لك فأولى ) . . فقال عدو الله : أتوعدني يا محمد ? والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئا . وإني لأعز من مشى بين جبليها ! ! فأخذه الله يوم بدر بيد المؤمنين بمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] وبرب محمد القوي القهار المتكبر . ومن قبله قال فرعون لقومه : ( ما علمت لكم من إله غيري ) . . وقال : ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ? ) . . ثم أخذه الله كذلك .
وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوات يعتز بعشيرته وبقوته وبسلطانه ؛ ويحسبها شيئا ؛ وينسى الله وأخذه . حتى يأخذه أهون من بعوضة ، وأحقر من ذبابة . . إنما هو الأجل الموعود لا يستقدم لحظة ولا يستأخر .
{ أولى لك فأولى } هذا وعيد على وعيد من الله عز وجل لأبي جهل ، وهي كلمة موضوعة للتهديد والوعيد . وقال بعض العلماء : معناه أنك أجدر بهذا العذاب وأحق وأولى به ، تقال للرجل يصيبه مكروه يستوجبه . وقيل : هي كلمة تقولها العرب لمن قاربه المكروه وأصلها من المولى وهو القرب ، قال الله تعالى : { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار }( التوبة- 123 ) . وقال قتادة : " ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له : { أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى } فقال أبو جهل : أتوعدني يا محمد ؟ والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا شيئاً ، وإني لأعز من مشى بين جبليها ! فلما كان يوم بدر صرعه الله شر مصرع ، وقتله أسوأ قتلة . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن لكل أمة فرعوناً وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل " .
قوله تعالى : " أولى لك فأولى ، ثم أولى لك فأولى " تهديد بعد تهديد ، ووعيد بعد وعيد ، أي فهو وعيد أربعة لأربعة ، كما روي أنها نزلت في أبي جهل الجاهل بربه فقال : " فلا صدق ولا صلى . ولكن كذب وتولى " أي لا صدق رسول الله ، ولا وقف بين يدي فصلى ، ولكن كذب رسولي ، وتولى عن التصلية بين يدي . فترك التصديق خصلة ، والتكذيب خصلة ، وترك الصلاة خصلة ، والتولي عن الله تعالى خصلة ؛ فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الأربعة . والله أعلم . لا يقال : فإن قوله : " ثم ذهب إلى أهله يتمطى " خصلة خامسة ، فإنا نقول : تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولي ، فأخبر عنها ، وذلك بين في قول قتادة على ما نذكره . وقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات يوم{[15644]} ، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد ، مما يلي باب بني مخزوم ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، فهزه أو مرتين ثم قال : ( أولى لك فأولى ) فقال له أبو جهل : أتهددني ؟ فوالله إني لأعز أهل الوادي وأكرمه .
ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لأبي جهل . وهي كلمة وعيد . قال الشاعر :
فأولى ثم أولى ثم أولى *** وهل للدَّرِّ يُحْلَبُ من مَرَدِّ
قال قتادة : أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده فقال : [ أولى لك فأولى ، ثم أولى لك فأولى ] . فقال : ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئا ، إني لأعز من بين جبليها . فلما كان يوم بدر أشرف على المسلمين فقال : لا يعبد الله بعد هذا اليوم أبدا . فضرب الله عنقه ، وقتله شر قتلة .
وقيل : معناه : الويل لك ، ومنه قول الخنساء :
هممت بنفسي كل الهموم *** فأولى لنفسي أولى لها
سأحمل نفسي على آلة{[15645]} *** فإما عليها وإما لها
الآلة : الحالة ، والآلة : السرير أيضا الذي يحمل عليه الميت ، وعلى هذا التأويل قيل : هو من المقلوب ، كأنه قيل : أويل ، ثم أخر الحرف المعتل ، والمعنى : الويل لك حيا ، والويل لك ميتا ، والويل لك يوم البعث ، والويل لك يوم تدخل النار ، وهذا التكرير{[15646]} كما قال : لك الويلات إنك مرجلي أي لك الويل ، ثم الويل ، ثم الويل ، وضعف هذا القول . وقيل : معناه الذم لك ، أولى ، من تركه ، إلا أنه كثير في الكلام فحذف . وقيل : المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب . وقال أبو العباس أحمد بن يحيى : قال الأصمعي " أولى " في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك ، كأنه يقول : قد وليت الهلاك ، قد دانيت الهلاك ، وأصله من الولي ، وهو القرب ، قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " [ التوبة : 123 ] أي يقربون منكم ، وأنشد الأصمعي :
أي قارب أن يكون له ، وأنشد أيضا :
أولى لمن هاجَتْ له أن يَكْمَدَا
أي قد دنا صاحبها [ من ]{[15647]} الكمد . وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الأصمعي ويقول : ليس أحد يفسر كتفسير الأصمعي . النحاس : العرب تقول أولى لك : كدت تهلك ثم أفلت ، وكأن تقديره : أولى لك وأولى بك الهلكة . المهدوي قال : ولا تكون أولى ( أفعل منك ) ، وتكون خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قال : الوعيد أولى له من غيره ؛ لأن أبا زيد{[15648]} قد حكى : أولاة الآن : إذا أوعدوا . فدخول علامة التأنيث دليل على أنه ليس كذلك . و " لك " خبر عن " أولى " . ولم ينصرف " أولى " لأنه صار علما للوعيد ، فصار كرجل اسمه أحمد . وقيل : التكرير فيه على معنى ألزم لك على عملك السيء الأول ، ثم على الثاني ، والثالث ، والرابع ، كما تقدم .
فقال مشيراً بأداة التراخي إلى عظيم ما ارتكب وقوة استحقاقه لهذا التأكيد : { ثم أولى لك } أي أيها الذي قد أحل نفسه بالغفلة دون محل البهائم { فأولى * } أي وصلت إلى هذا الهلاك بداهية تعقبها{[70329]} تارة متوالياً وتارة متراخياً ، وبعضها أعظم من بعض ، لحقك ذلك لا محالة ، فإن هذا دعاء ممن{[70330]} بيده الأمر كله ، ويجوز أن يكون المعنى{[70331]} : أولى لك أن تترك ما أنت عليه وتقبل على ما ينفعك ، وقال ابن جرير في تفسير المدثر{[70332]} : إن أبا جهل لما استهزأ على جعل خزنة{[70333]} النار تسعة عشر أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه فيأخذ بيده في بطحاء مكة فيقول{[70334]} له : أولى لك - إلى آخرها ، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جهل : والله لا تفعل أنت وربك شيئاً ، فأخزاه الله -{[70335]} يوم بدر - انتهى . ويمكن تنزيل الكلمات الأربع على حالاته{[70336]} الأربع : الحياة ثم الموت ثم البعث ثم دخول النار ، فيكون المعنى : لك المكروه الآن وفي الموت والبعث ودخول النار . قال البغوي{[70337]} : وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن لكل أمة فرعوناً ، وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل " وقد أفهمت الآية أن من أصلح قوتي علمه وعمله بأن صدق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأقبل وأقام الصلاة فتبعتها{[70338]} جميع الأعمال التي هي عمادها ، فنشأ عن ذلك خلق حسن وهو الوجل مع الطاعة ، فهنالك{[70339]} يقال له : بشرى لك فبشرى ثم بشرى لك-{[70340]} فبشرى .