ثم يمضي سياق السورة في عرض مشاهد القيامة وما يكون فيها من شأن النفس اللوامة ، فيذكرهم بحقيقة نفوسهم وما يعتلج فيها من حب للدنيا وانشغال ، ومن إهمال للآخرة وقلة احتفال ؛ ويواجههم بموقفهم في الآخرة بعد هذا وما ينتهي إليه حالهم فيها . ويعرض لهم هذا الموقف في مشهد حي قوي الإيحاء عميق الإيقاع :
( كلا . بل تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة . وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة ؛ ووجوه يومئذ باسرة ، تظن أن يفعل بها فاقرة ) . .
وأول ما يلحظ من ناحية التناسق في السياق هو تسمية الدنيا بالعاجلة في هذا الموضع . ففضلا عن إيحاء اللفظ بقصر هذه الحياة وسرعة انقضائها - وهو الإيحاء المقصود - فإن هناك تناسقا بين ظل اللفظ وظل الموقف السابق المعترض في السياق ، وقول الله تعالى لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ]( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) . . فهذا التحريك وهذه العجلة هي أحد ظلال السمة البشرية في الحياة الدنيا . . وهو تناسق في الحس لطيف دقيق يلحظه التعبير القرآني في الطريق !
{ 20 - 25 } { كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ }
أي : هذا الذي أوجب لكم الغفلة والإعراض عن وعظ الله وتذكيره أنكم { تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ } وتسعون فيما يحصلها ، وفي لذاتها وشهواتها ،
ولما كان سبحانه وتعالى قد ختم الكلام في المكذبين بأن أعمالهم محفوظة ، وأن كل أحد على نفسه شاهد ، لأنه يعلم جميل ما يفعل من قبيحه وإن اعتذر ، ولولاه{[70237]} ما اشتد اتصاله به ، وختم بضمان البيان للقرآن ، فكان شاهداً بيناً على كل{[70238]} إنسان بما له من عظيم البيان .
قال نافياً لما يظن من جهلهم بقبيح أفعالهم الذي اقتضاه اعتذارهم مشعراً بأن الآدمي مطبوع على الاستعجال بعد النهي عن العجلة في أعز الأشياء وأعلاها وأهمها وأولاها ، لأنه أصل الدين ليكون ذلك مؤكداً للنهي عن العجلة بالقرآن ومؤكداً لذمهم بحب العاجلة مغلظاً لتوبيخهم على الميل مع الطبع وترك ما يقتضيه العلم والعقل : { كلا } أي لا يجهل أحد منهم قبائح ما ارتكبه وإن اعتذر وما ارتكب شيئاً{[70239]} منها عن{[70240]} جهل { بل } هم { يحبون } أي محبة متجددة مستمرة على تجدد الزمان { العاجلة * } بدليل أنهم يقبلون{[70241]} غاية الإقبال عليها فيأخذونها ، وحبّها أوجب لهم ارتكاب ما يعلمون قبحه فإن الآخرة والأولى ضرتان{[70242]} من أحب إحداهما فعل ولا بد ما يباعده عن الأخرى ، فإن " حبك للشيء يعمي ويصم " وهذا بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم في مطلق العجلة فكيف بالعاجلة فإنما طبعناه على الكمال ، فكان يعالج من العجلة بالقراءة شدة فحين نهيناه عن ذلك انتهى رجوعاً إلى طبعه الكامل الذي لا يشوبه نقص ، وكذا كان أمره تكويناً{[70243]} لا إباء معه ولا كلفة ، فإن نفسه المطمئنة هي الغالبة ولها السلطان الأكبر ،
قوله : { كلا بل تحبون العاجلة } يخاطب الله بذلك عباده الذين يؤثرون الحياة الدنيا وزينتها على الآخرة بقوله : ليس الأمر كما تزعمون من أنكم غير مبعوثين بعد الممات . فإن الذي دعاكم إلى هذا القيل حبكم هذه الدنيا العاجلة الفانية وإيثاركم زينتها وشهواتها على الآخرة الخالدة الباقية .
وقيل : كلا ، ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستعجال وتحضيض له على التأني والاتئاد { بل تحبون العاجلة } يعني بل أنتم يا بني آدم لأنكم مخلوقون من عجل فإنكم تحبون هذه الدنيا العاجلة وتؤثرونها على الآخرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.