لهؤلاء المؤمنين الذين أوقفهم الله في صفه مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وجعل عزتهم من عزته يوجه النداء الأخير في السورة ، ليرتفعوا إلى هذا المكان الكريم ، ويبرأوا من كل صفة تشبه صفات المنافقين ، ويختاروا ذلك المقام الأسنى على الأموال والأولاد ، فلا يدعوها تلهيهم عن بلوغ ذلك المقام الوضيء :
يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله . ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون . وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت ، فيقول : رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين . ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ، والله خبير بما تعملون . .
والأموال والأولاد ملهاة ومشغلة إذا لم يستيقظ القلب ، ويدرك غاية وجوده ، ويشعر أن له هدفا أعلى يليق بالمخلوق الذي نفخ الله فيه من روحه ، فأودع روحه الشوق إلى تحقيق بعض صفاته الإلهية في حدود طاقته البشرية . وقد منحه الأموال والأولاد ليقوم بالخلافة في الأرض لا لتلهيه عن ذكر الله والاتصال بالمصدر الذي تلقى منه ما هو به إنسان . ومن يغفل عن الاتصال بذلك المصدر ، ويلهه عن ذكر الله ليتم له هذا الاتصال ( فأولئك هم الخاسرون ) . . وأول ما يخسرونه هو هذه السمة . سمة الإنسان . فهي موقوفة على الاتصال بالمصدر الذي صار به الإنسان إنسانا . ومن يخسر نفسه فقد خسر كل شيء . مهما يملك من مال ومن أولاد .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 9 ) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 10 ) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 11 ) }
لا تُلهكم : لا يشغلكم الاهتمام بها ، والانصراف إليها .
عن ذكر الله : عن عبادته وطاعته ومراقبته .
9- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .
المال نعمة ، والولد نعمة ، والإسلام يرغب في إنسان متوازن ، يستفيد بالمال في وجوه الحياة ، وما بعد الممات ، ويستفيد بالولد ، وينعم به في توازن واعتدال ، وقد أُمرنا بالتوسط في حياتنا ، والتوازن والعمل للدنيا والآخرة .
قال تعالى : { وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } . ( القصص : 77 ) .
ومعنى الآية التاسعة من سورة المنافقون ما يأتي :
يا أيها الذين آمنوا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ، لا تشغلكم الأموال أو الأولاد أو غيرهما من عرض الدنيا عن الله وطاعته ، وامتثال أمره بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وفعل المأمورات وترك المنهيات .
ومن تشغله نعم الله عن طاعة الله ، والمبادرة إلى طاعته فقد خسر آخرته ، وباع جنة عرضها السماوات والأرض بعرض قليل .
قال تعالى : { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا } . ( النساء : 77 ) .
وبعد أن بين حالَ المنافقين وفضحهم وكشف دسائسهم ومؤامراتهم اتجه إلى المؤمنين يؤدبهم بأدب القرآن ، ويذكّرهم بأن الأموال والأولاد والدنيا بأسرها
لا قيمة لها من غير إيمان خالص ، وإنفاق في سبيل الله ، وأن كل إنسان له أجل لا بد منتهٍ إليه ، والله خبير بما يعملون .
فعلى المؤمنين أن لا يكونوا مثل المنافقين ، فلا تلهيهم أموالهم ولا أولادهم عن ذكر الله آناء الليل وإطراف النهار ، وعليهم أن يؤدوا ما فُرض عليهم من العبادات .
{ 9-11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره ، فإن في ذلك الربح والفلاح ، والخيرات الكثيرة ، وينهاهم أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن ذكره ، فإن محبة المال والأولاد مجبولة عليها أكثر النفوس ، فتقدمها على محبة الله ، وفي ذلك الخسارة العظيمة ، ولهذا قال تعالى : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ } أي : يلهه ماله وولده ، عن ذكر الله { فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } للسعادة الأبدية ، والنعيم المقيم ، لأنهم آثروا ما يفنى على ما يبقى ، قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
حذر المؤمنين أخلاق المنافقين ، أي لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون إذ قالوا - للشح بأموالهم - : لا تنفقوا على من عند رسول الله . " عن ذكر الله " أي عن الحج والزكاة . وقيل : عن قراءة القرآن . وقيل : عن إدامة الذكر . وقيل : عن الصلوات الخمس ، قاله الضحاك . وقال الحسن : جمع الفرائض ، كأنه قال عن طاعة الله . وقيل : هو خطاب للمنافقين ، أي آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب . " ومن يفعل ذلك " أي من يشتغل بالمال والولد عن طاعة ربه " فأولئك هم الخاسرون " .
ولما كان هذا{[65572]} الذي حكاه سبحانه وتعالى عن المنافقين بحيث يعجب غاية العجب من {[65573]}تصور قائله{[65574]} له فضلاً عن أن يتفوه به فكيف بأن يعتقده ، نبه على أن{[65575]} العلة الموجبة له طمس البصيرة ، وأن العلة في طمس البصيرة الإقبال بجميع القلب على الدنيا رجوعاً على إيضاح ما تقدم في{[65576]} نتيجة الجمعة من الإذن{[65577]} في {[65578]}طلب الرزق{[65579]} والتحذير من مثل فعل حاطب رضي الله عنه وفعل من انصرف عن خطبة الجمعة لتلك العير{[65580]} ، وكان هذا التنبيه على وجه حاسم لمادة شرهم في كلامهم فإن كلمة الشح كما قيل{[65581]} مطاعة ، ولو بأن تؤثر أثراً ما ولو بأن تقتر نوع تقتير في وقت ما ، فقال منادياً لمن يحتاج إلى ذلك : { يا أيها الذين آمنوا } أي أخبروا بما يقتضي أن بواطنهم مذعنة كظواهرهم { لا تلهكم أموالكم } ولما كان الخطاب مع من يحتاج إلى التأكيد قال : { ولا أولادكم } أي لا تقبلوا على شيء من ذلك بجميع قلوبكم إقبالاً يحيركم سواء كان ذلك في إصلاحها أو التمتع بها{[65582]} بحيث{[65583]} تشتغلون وتغفلون { عن ذكر الله } أي من{[65584]} توحيد الملك الأعظم الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء فله الملك وله الحمد يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، فإذا كان العبد ذاكراً له بقلبه دائماً لم يقل كقول المنافقين
{ لا تنفقوا }[ المنافقين : 7 ] ولا
{ ليخرجن الأعز منها الأذل }[ المنافقين : 8 ] لعلمه أن الأمر كله لله ، وأنه لن يضر الله شيئاً ، ولا يضر بذلك إلا نفسه ، وهذا يشمل ما{[65585]} قالوه من التوحيد والصلاة والحج والصوم وغير ذلك ، ولإرادة المبالغة في النهي وجّه النهي إلى الأموال والأولاد بما المراد منه نهيهم .
ولما كان التقدير : فمن انتهى فهو من الفائزين ، عطف عليه قوله : { ومن يفعل } أي يوقع{[65586]} في زمن من الأزمان على سبيل التجديد والاستمرار فعل { ذلك } أي الأمر البعيد عن أفعال ذوي الهمم من الانقطاع إلى الاشتغال بالفاني والإعراض عن الباقي والإقبال على العاجل مع نسيان الآجل { فأولئك } أي البعداء عن الخير { هم } أي{[65587]} خاصة { الخاسرون * } أي العريقون في الخسارة حتى كأنهم كانوا مختصين بها دون الناس ، وذلك ضد ما أرادوا بتوفير النظر إليهم والإقبال عليهم من السعي للتكثير والزيادة والتوفير ، وفي إفهامه أن من شغله ما يهمه من أمر دينه الذي أمره{[65588]} سبحانه به ونهاه عنه إضاعته وتوعده عليها{[65589]} كفاه سبحانه أمر دنياه الذي ضمنه له ونهاه أن يجعله أكبر همه وتوعده على ذلك ، فما ذكره{[65590]} إلا من وجده في جميع أموره ديناً ودنيا ، وتوجه إليه في جميع نوائبه ، وأقبل عليه بكل همومه ، وبذل نفسه له بذل من يعلم أنه مملوك مربوب فقد أمر ربه على نفسه واتخذه وكيلاً فاستراح من المخاوف ، ولم يمل إلى شيء من المطامع فصار حراً .