( لا تسمع فيها لاغية ) . . ويطلق هذا التعبير جوا من السكون والهدوء والسلام والاطمئنان والود والرضى والنجاء والسمر بين الأحباء والأوداء ، والتنزه والارتفاع عن كل كلمة لاغية ، لا خير فيها ولا عافية . . وهذه وحدها نعيم . وهذه وحدها سعادة . سعادة تتبين حين يستحضر الحس هذه الحياة الدنيا ، وما فيها من لغو وجدل وصراع وزحام ولجاج وخصام وقرقعة وفرقعة . وضجة وصخب ، وهرج ومرج . ثم يستسلم بعد ذلك لتصور الهدوء الآمن والسلام الساكن والود الرضي والظل الندي في العبارة الموحية : ( لا تسمع فيها لاغية )وألفاظها ذاتها تنسم الروح والندى وتنزلق في نعومة ويسر ، وفي إيقاع موسيقي ندي رخي ! وتوحي هذه اللمسة بأن حياة المؤمنين في الأرض وهم ينأون عن الجدل واللغو ، هي طرف من حياة الجنة ، يتهيأون بها لذلك النعيم الكريم .
وهكذا يقدم الله من صفة الجنة هذا المعنى الرفيع الكريم الوضيء . ثم تجيء المناعم التي تشبع الحس والحواس . تجيء في الصورة التي يملك البشر تصورها . وهي في الجنة مكيفة وفق ما ترتقي إليه نفوس أهل الجنة . مما لا يعرفه إلا من يذوقه !
لا تسمع في الجنة لغوا : وهو الباطل أو كل قبيح من الكلام ، أو ما لا يعتدّ به من الأقوال والأفعال ، فإن كلام أهل الجنة ذكر الله وتسبيحه ، وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم .
قال تعالى : وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن إن ربنا لغفور شكور* الذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمسّنا فيها نصب ولا يمسّنا فيها لغوب . ( فاطر : 34 ، 35 ) .
وفي الآية توجيه لأهل النعمة والغنى ، أن يكون حديثهم ونعيمهم ، نعيم أهل الفضل والجد ، لا نعيم أهل الجهل والحمق .
لا تسمع فيها لاغية : لا تسمع فيها كلاما فاحشا يؤذي السامع .
وهي بعيدة عن اللغو ، فهي في منازِل أهل الشرف في سعادة وكرامة في ضيافة رب العالمين .
قرأ أهل البصرة غير سهل : لا يُسمع فيها لاغية بضم الياء ورفع لاغية . والباقون : لا تسمع بفتح التاء ونصب لاغية . وقرأ نافع : لا تسمع فيها لاغية بالتاء المضمومة ورفع لاغية .
{ لَا تَسْمَعُ فِيهَا } أي : الجنة { لَاغِيَةً } أي : كلمة لغو وباطل ، فضلًا عن الكلام المحرم ، بل كلامهم كلام حسن [ نافع ] مشتمل على ذكر الله تعالى ، وذكر نعمه المتواترة عليهم ، و[ على ] الآداب المستحسنة{[1417]} بين المتعاشرين ، الذي يسر القلوب ، ويشرح الصدور .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
لا يسمع بعضهم من بعض غيبة ، ولا كذبا ، ولا شتما ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله: "لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً" يقول: لا تسمع هذه الوجوه - المعنى: لأهلها فيها في الجنة العالية - لاغية. يعني باللاغية: كلمة لغو، واللَّغو: الباطل، فقيل للكلمة التي هي لغو لاغية...
عن ابن عباس، قوله: "لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً" يقول: لا تسمع أذًى ولا باطلا..
عن مجاهد، قوله: "لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً" قال: شتمًا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ونزع الغل عن صدورهم ، فارتفعت دواعي السفه كلها ، فلا يسمع فيها ما يحق أن يلغى به . ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و " اللغو " سقط القول ، فذلك يجمع الفحش وسائر الكلام السفساف الناقص ، وليس في الجنة نقصان ولا عيب فعل ولا قول ، والحمد لله ولي النعمة . ...
إن الجنة منزهة عن اللغو لأنها منزل جيران الله تعالى وإنما نالوها بالجد والحق لا باللغو والباطل ، وهكذا كل مجلس في الدنيا شريف مكرم فإنه يكون مبرأ عن اللغو، وكل ما كان أبلغ في هذا كان أكثر جلالة ، هذا ما قرره القفال ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويطلق هذا التعبير جوا من السكون والهدوء والسلام والاطمئنان والود والرضى والنجاء والسمر بين الأحباء والأوداء، والتنزه والارتفاع عن كل كلمة لاغية ، لا خير فيها ولا عافية . . وهذه وحدها نعيم ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ابتدئ في تعداد صفات الجنة بصفتها الذاتية وهو كونها عالية ، وثُني بصفة تنزيهها عمّا يعدّ من نقائص مجامع الناس ومساكن الجماعات وهو الغوغاء واللغو ، وقد جردت هذه الجملة من أن تعطف على { عالية } مراعاة لعدم التناسب بين المفردات والجمل وذلك حقيق بعدم العطف لأنه أشد من كمال الانقطاع في عطف الجمل . وهذا وصف للجنة بحسن سكانها .
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فليس هناك ثمّة : جدال ، كلام نفاق ، عداوة ، حقد ، حسد ، كذب ، تهمة ، افتراء ، غيبة ولا أيّ إيذاء ، بل ولا حتى الكلام الفارغ . فهل يوجد مكان أهدأ وأجمل من ذلك ؟ ! ولو تأملنا حقيقة مشاكلنا فيما بيننا ، لرأينا أنّ الغالب منها ما كان ناشئاً عن سماع هكذا أحاديث ، والتي تؤدي إلى عدم الاستقرار النفسي ، وإلى تهديم أركان الترابط الاجتماعي فينهار النظام وتشتعل نيران الفتن لتأكل الأخضر واليابس معاً...
قوله تعالى : " لاغية " أي كلاما ساقطا غير مرضي . وقال : " لاغية " ، واللغو واللغا واللاغية : بمعنى واحد . قال :
عن اللَّغَا ورَفَثِ التَّكَلُّمِ{[16009]}
وقال الفراء والأخفش : أي لا تسمع فيها كلمة لغو . وفي المراد بها ستة أوجه : أحدها : يعني كذبا وبهتانا وكفرا باللّه عز وجل . قاله ابن عباس . الثاني : لا باطل ولا إثم . قاله قتادة . الثالث : أنه الشتم . قاله مجاهد . الرابع : المعصية . قاله الحسن . الخامس : لا يسمع فيها حالف يحلف بكذب . قاله الفراء . وقال الكلبي : لا يسمع في الجنة حالف بيمين برة ولا فاجرة . السادس : لا يسمع في كلامهم كلمة بلغو ؛ لأن أهل الجنة لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد اللّه على ما رزقهم من النعيم الدائم ؛ قال الفراء أيضا . وهو أحسنها لأنه يعم ما ذكر . وقرأ أبو عمرو وابن كثير " لا يسمع " بياء غير مسمى الفاعل . وكذلك نافع ، إلا أنه بالتاء المضمومة ؛ لأن اللاغية اسم مؤنث فأنث الفعل لتأنيثه . ومن قرأ بالياء فلأنه حال بين الاسم والفعل الجار والمجرور . وقرأ الباقون بالتاء مفتوحة " لاغية " نصا على إسناد ذلك للوجوه ، أي لا تسمع الوجوه فيها لاغية .