في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الجاثية مكية وآياتها سبع وثلاثون

هذه السورة المكية تصور جانباً من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية ، وطريقتهم في مواجهة حججها وآياتها ، وتعنتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها ، واتباعهم للهوى اتباعاً كاملاً في غير ما تحرج من حق واضح أو برهان ذي سلطان . كذلك تصور كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة الشاردة مع الهوى ، المغلقة دون الهدى ؛ وهو يواجهها بآيات الله القاطعة العميقة التأثير والدلالة ، ويذكرهم عذابه ، ويصور لهم ثوابه ، ويقرر لهم سننه ، ويعرفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود .

ومن خلال آيات السورة وتصويرها للقوم الذين واجهوا الدعوة في مكة ، نرى فريقاً من الناس مصرا على الضلالة ، مكابراً في الحق ، شديد العناد ، سيىء الأدب في حق الله وحق كلامه ، ترسمه هذه الآيات ، وتواجهه بما يستحقه من الترذيل والتحذير والتهديد بعذاب الله المهين الأليم العظيم :

( ويل لكل أفاك أثيم . يسمع آيات الله تتلى عليه ، ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها ، فبشره بعذاب أليم . وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً ، أولئك لهم عذاب مهين . من ورائهم جهنم ، ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم ) . .

ونرى جماعة من الناس ، ربما كانوا من أهل الكتاب سيئي التصور والتقدير ؛ لا يقيمون وزناً لحقيقة الإيمان الخالصة ، ولا يحسون بالفارق الأصيل بينهم وهم يعملون السيئات وبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات . والقرآن يشعرهم بأن هناك فارقاً أصيلاً في ميزان الله بين الفريقين ، ويقرر سوء حكمهم وسوء تصورهم للأمور ؛ وقيام الأمر في ميزان الله على العدل الأصيل في صلب الوجود كله منذ بدء الخلق والتكوين :

( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، سواء محياهم ومماتهم ? ساء ما يحكمون ! وخلق الله السماوات والأرض بالحق ، ولتجزى كل نفس بما كسبت ، وهم لا يظلمون ) . .

ونرى فريقاً من الناس لا يعرف حكماً يرجع إليه إلا هواه ، فهو إلهه الذي يتعبده ، ويطيع كل ما يراه . نرى هذا الفريق من الناس مصوراً تصويراً فذاً في هذه الآية ؛ وهو يعجب من أمره ويشهر بغفلته وعماه :

( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وأضله الله على علم ، وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ? فمن يهديه من بعد الله ? أفلا تذكرون ? ) . .

ونرى هذا الفريق من الناس ينكر أمر الآخرة ، ويشك كل الشك في قضية البعث والحساب ، ويتعنت في الإنكار وفي طلب البرهان بما لا سبيل إليه في هذه الأرض . والقرآن يوجه هذا الفريق إلى الدلائل القائمة الحاضرة على صدق هذه القضية ، وهم عنها معرضون :

( وقالوا : ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ، وما يهلكنا إلا الدهر . وما لهم بذلك من علم ، إن هم إلا يظنون . وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا : ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين . قل : الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه . ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .

ويجوز أن يكون هؤلاء جميعاً فريقاً واحداً من الناس يصدر منه هذا وذاك ، ويصفه القرآن في السورة هنا وهناك . كما يجوز أن يكونوا فرقاً متعددة ممن واجهوا الدعوة في مكة . بما في ذلك بعض أهل الكتاب ، وقليل منهم كان في مكة . ويجوز أن تكون هذه إشارة عن هذا الفريق ليعتبر بها أهل مكة دون أن يقتضي هذا وجوده في مكة بالذات في ذلك الحين .

وعلى أية حال فقد واجه القرآن هؤلاء الناس بصفاتهم تلك وتصرفاتهم ، وتحدث عنهم في هذه السورة ذلك الحديث . . كذلك واجههم بآيات الله في الآفاق وفي أنفسهم ، وحذرهم حساب يوم القيامة ، وبصرهم بما جرى لمن قبلهم ممن انحرفوا عن دين الله القويم .

واجههم بآيات الله في هذا الأسلوب البسيط المؤثر العميق :

( إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين . وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون . واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون . تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ، فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ? ) . .

وواجههم بها مرة أخرى في صورة نعم من أنعم الله عليهم يغفلون عن تذكرها وتدبرها :

( الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه . إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) . .

كذلك واجههم بحالهم يوم القيامة الذي ينكرونه أو يمارون فيه :

( ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون . وترى كل أمة جاثية . كل أمة تدعى إلى كتابها . اليوم تجزون ما كنتم تعملون . هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته . ذلك هو الفوز المبين . وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين ? وإذا قيل : إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها . قلتم : ما ندري ما الساعة ، إن نظن إلا ظناً ، وما نحن بمستيقنين . وبدا لهم سيئات ما عملوا ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . وقيل : اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ، ومأواكم النار ، وما لكم من ناصرين : ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون . . )

كذلك لم يدع أي لبس أو شك في عدالة الجزاء وفردية التبعة ؛ فبين أن هذا الأصل عميق في تكوين الوجود كله ، وعليه يقوم هذا الوجود . ذلك حين يقول :

( من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ، ثم إلى ربكم ترجعون ) . .

وحين يرد على من يحسبون وهم يجترحون السيئات أنهم عند الله كالمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، فيقول :

( وخلق الله السماوات والأرض بالحق ، ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ) . .

والسورة كلها وحدة في علاج موضوعها ؛ ولكننا قسمناها إلى درسين اثنين لتيسير عرضها وتفصيلها .

وهي تبدأ بالأحرف المقطعة : حا . ميم . والإشارة إلى القرآن الكريم : ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) . . وتختم بحمد الله وربوبيته المطلقة ، وتمجيده وتعظيمه ، إزاء أولئك الذين يغفلون عن آياته ويستهزئون بها ويستكبرون عنها : ( فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين . وله الكبرياء في السماوات والأرض ، وهو العزيز الحكيم ) . .

ويسير سياق السورة في عرض موضوعها في يسر وهوادة وإيضاح هادىء ، وبيان دقيق عميق . على غير ما يسير سياق سورة الدخان قبلها في إيقاع عنيف كأنه مطارق تقرع القلوب .

والله خالق القلوب ، ومنزل هذا القرآن ، يأخذ القلوب تارة بالقرع والطرق . وتارة باللمس الناعم الرفيق ، وتارة بالبيان الهادى ء الرقيق . حسب تنوعها هي واختلافها . وحسب تنوع حالاتها ومواقفها في ذاتها . وهو اللطيف الخبير . وهو العزيز الحكيم . .

والآن نأخذ في التفصيل

( حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين . وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون . واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح ، آيات لقوم يعقلون ) . .

يذكر الحرفين : حا . ميم ويذكر بعدهما تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . وفيهما دلالة على مصدر الكتاب ، كما أسلفنا الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور . من ناحية أن هذا الكتاب المعجز مصوغ من مثل هذه الأحرف ، وهم لا يقدرون على شيء منه ،

فهذه دلالة قائمة على أن تنزيل هذا الكتاب من الله( العزيز )القادر الذي لا يعجزه شيء . ( الحكيم )الذي يخلق كل شيء بقدر ، ويمضي كل أمر بحكمة . وهو تعقيب يناسب جو السورة وما تتعرض له من ألوان النفوس .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الجاثية

أهداف سورة الجاثية

سورة الجاثية مكية ، نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة ، بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، وآياتها 37 آية ، نزلت بعد سورة الدخان ، والسورة لها اسمان : سورة الجاثية ، لقوله تعالى : { وترى كل أمة جاثية . . . } ( الجاثية : 28 ) .

وسورة الشريعة لقوله تعالى : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } . ( الجاثية : 18 ) .

الغرض من السورة

تحمل سورة الجاثية الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى ، والرد على الدهرية الذين لا يؤمنون به ، وينكرون البعث بعد الموت ، وقد دعت السورة إلى هذا تارة بالدليل ، وتارة بالترهيب والترغيب ، شأنها في ذلك شأن السورة السابقة ، وشأن السورة التي ذكرت قبلها ووافقتها في هذا الغرض ، كما وافقتها في الحروف التي ابتدأت بها ، ولهذا ذكرت هذه السورة معها ، وسميت مجموعة هذه السور بالحواميم ، نسبة إلى بدايتها بقوله تعالى : { حم } .

وقال الفيروزبادي :

معظم مقصود سورة الجاثية هو : بيان حجة التوحيد ، والشكاية من الكفار والمنكرين ، وبيان النفع والضر والإساءة والإحسان1 ، وبيان شريعة الإسلام والإيمان ، وتهديد العصاة والخائنين من أهل الإيمان ، وذم متابعي الهوى ، وذل الناس في المحشر ، ونسخ كتب الأعمال من اللوح المحفوظ ، وتأبيد الكفار في النار ، وتحميد الرب المتعال بأوجز لفظ وأفصح مقال2 في قوله : { فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين } . ( الجاثية : 36 ) .

سمات السورة

لاحظنا أن سورة الجاثية تتميز بقصر الآيات ، وعنف الإيقاع كأنه مطارق تقرع القلوب ، وسورة الجاثية بجوارها تسير في يسر وهوادة ، وإيضاح هادئ ، وبيان دقيق عميق .

والله سبحانه خالق القلوب ، ومنزل هذا القرآن ، يأخذ القلوب تارة بالقرع والطرق ، وتارة باللمس الناعم الرفيق ، وتارة بالبيان الهادئ الرقيق ، حسب تنوعها هي واختلافها .

فمن الناس من ينفع معه الزجر والوعيد ، ومنهم من يأسره التوجيه الهادئ الرشيد ، والقلب الواحد يتقلب على حالات متعددة ، والله يختار له ما يناسبه ، وهو سبحانه اللطيف الخبير ، السميع البصير ، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك ) ، فقالت عائشة : يا رسول الله ، أراك تكثر من هذا الدعاء ، فقال النبي : ( يا عائشة ، إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء )3 .

منهج السورة :

سورة الجاثية تصور جانبا من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية ، وطريقتهم في مواجهة حججها وآياتها ، وتعنتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها ، وإتباعهم للهوى إتباعا كاملا في غير ما تحرج من حق واضح أو برهان ظاهر ، كذلك تصور كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة الشاردة مع الهوى ، المغلقة دون الهدى ، وهو يواجهها بآيات الله القاطعة ، والعميقة التأثير والدلالة ، ويذكرهم بعذابه ، ويصور لهم ثوابه ، ويقرر لهم سننه ، ويعرفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود .

درسان في السورة :

سورة الجاثية وحدة في علاج موضوعها ، وهذه الوحدة تشتمل على درسين :

الدرس الأول : يتناول أدلة الشرك بالتنفيذ ، وأدلة الإيمان بالتوضيح والتأييد .

والدرس الثاني : يعرض عناد الكافرين في الدنيا ، ثم يذكر أحوالهم في مشاهد القيامة .

1- شبهات الكفر ، وأدلة الإيمان

تبدأ سورة الجاثية بهذين الحرفين : حم ، والملاحظ أن هذه الأحرف يتبعها عادة الحديث عن القرآن ، مما يشير إلى أنها نزلت لتنوه بهذا القرآن ، وتستلفت الأنظار إلى خصائصه المتميزة ، وتبرهن بذلك على أنه ليس من صنع بشر ، وإنما هو من عند الله : { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } . ( الجاثية : 2 ) .

وتعرض أدلة الإيمان والتوحيد ، وتستلفت الأنظار إلى جلال الله ، ودلائل قدرته في السماء والأرض ، والخلق والدواب ، والليل والنهار ، والمطر والزرع والرياح ، حتى تأخذ على النفس أقطارها ، وتواجهها بالحجج والبراهين ساطعة واضحة ، فتقول : { إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ( 3 ) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 4 ) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 5 ) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ( 6 ) } . ( الجاثية : 3-6 ) .

ومن خلال الآيات التالية نرى فريقا من الناس مصرا على الضلالة ، مكابرا في الحق ، شديد العناد ، سيء الأدب في حق الله وحق كلامه : { ويل لكل أفاك أثيم * يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم } . ( الجاثية : 7 ، 8 ) .

ونرى جماعة من الناس ، ربما كانوا من أهل الكتاب ، سيئ التصوير والتقدير ، لا يقيمون وزنا لحقيقة الإيمان الخالصة ، ولا يحسون بالفارق الأصيل بينهم وهم يعلمون السيئات ، وبين المؤمنين الذي يعملون الصالحات ، والقرآن يشعرهم بأن هناك فارقا أصيلا في ميزان الله بين الفريقين : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } . ( الجاثية : 21 ) .

ونرى فريقا من الناس لا يعرف حكما يرجع إليه هواه ، فهو إلهه الذي يعبده ، ويطيع كل ما يراه ، نرى هذا الفريق مصورا تصويرا فذًّا في هذه الآية التي تعجب من أمره ، وتشهر بغفلته وعماه : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون } . ( الجاثية : 22 ) .

أرأيت كيف تناولت هذه السورة الهادئة أصناف المشركين و فرقهم المناوئة للدعوة ، ويجوز أن يكون هؤلاء جميعا فريقا واحدا من الناس يصدر منه هذا وذاك ، ويصفه القرآن في السورة هنا وهناك ، كما يجوز أن يكونوا فرقا متعددة .

وعلى أية حال فقد واجه القرآن هؤلاء الناس بصفاتهم تلك وتصرفاتهم ، وتحدث عنهم في هذه السورة ذلك الحديث ، كذلك واجههم الله بآياته في الآفاق وفي أنفسهم ، وفي البر والبحر ، حيث يقول سبحانه : { الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } . ( الجاثية : 12 ، 13 ) .

ويستغرق الدرس الأول من السورة الآيات من ( 1-23 ) .

2- عناد الكافرين وعقابهم يوم الدين

يشمل الدرس الثاني من السورة الآيات من ( 24-37 ) ، ويبدأ بعرض أقوال المشركين عن الآخرة وعن البعث والحساب ، ودعواهم بأن الأيام تمضي ، والدهر ينطوي ، فإذا هم أموات ، والدهر في ظنهم هو الذي ينهي آجالهم ، ويلحق بأجسامهم الموت فيموتون ، وقد فقد القرآن هذه الدعوى ، وبين أنها لا تستند إلى حقيقة أو يقين ، وإذا قرعتهم الآيات الدالة على ثبوت البعث لم يجدوا لهم حجة إلا أن يقولوا : { ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين } . ( الجاثية : 25 ) .

والله سبحانه له حكمة في خلق الناس ، فقد خلقهم للاختبار والابتلاء في الدنيا ، ثم يجازيهم في الآخرة ، ولا يرجعهم إلى الدنيا قبل الموعد الذي قدره وفق حكمته العليا .

والله هو الذي يحيي وهو الذي يميت ، فلا عجب إذن من أن يحيي الناس ويجمعهم إلى يوم القيامة ، وهو سبحانه مالك السماوات والأرض ، وهو القادر على الإنشاء والإعادة .

مشاهد القيامة

تعرض الآيات الأخيرة من سورة الجاثية مشاهد الآخرة ، ظاهرة ملموسة للعين ، ومن خلال الآيات نرى المشركين وقد جثوا على الركب ، متميزين أمة أمة في ارتقاب الحساب المرهوب .

ثم يأخذون كتابهم وقد سجل كل شيء فيه ، ونسخت فيه كل أعمالهم : { وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون * هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } . ( الجاثية : 28 ، 29 ) .

ثم تنقسم الحشود الحاشدة والأمم المختلفة على مدى الأجيال إلى فريقين اثنين : الذين آمنوا ، وهؤلاء يدخلهم ربهم في رحمته . والذين كفروا ، وهؤلاء يلقون التشهير والتوبيخ جزاء عنادهم ، وعندئذ تظهر أمامهم سيئات ما عملوا ، ويحيق بهم المهانة والعذاب ، ويسدل الستار عليهم ، وقد أوصدت عليهم أبواب النار : { ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون } . ( الجاثية : 35 ) .

وهنا ينطلق صوت التحميد يعلن وحدة الربوبية في هذا الكون : سمائه وأرضه ، إنسه وجنه ، طيره ووحشه ، وسائر ما فيه ومن فيه ، فكلهم في رعاية رب واحد ، له الكبرياء المطلق في هذا الوجود ، وله العزة القادرة والحكمة المدبرة : { فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين * وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } . ( الجاثية : 36 ، 37 ) .

أدلة الألوهية

بسم الله الرحمن الرحيم

{ حم ( 1 ) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 2 ) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ( 3 ) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 4 ) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 5 ) }

المفردات :

حم : حرفان من حروف المعجم ، أو أداة للتنبيه ، أو للتحدي والإعجاز .

التفسير :

1- { حم } :

حرفان من حروف المعجم التي افتتح الله تعالى بها بعض السور للتنبيه ، فهي بمثابة الجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ لدخول المدرسة ، أو للتحدي والإعجاز ، أو للإشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته ، أو هي لجميع هذه المعاني ، وغيرها مما سبق ذكره في أول سورة البقرة .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الجاثية مكية وآياتها سبع وثلاثون ، نزلت بعد سورة الدخان . وهي كباقي السور المكية تتناول أسس العقيدة ، التوحيدَ والرسالة والبعثَ ، وتركّز على إثبات دلائل القدرة والوحدانية وتصوّر جانبا من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية ، وطريقتهم في مواجهة حُججها وآياتها وتعنّتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها . وكيف يعالج القرآن قلوبهم الجامحة مع الهوى ، المغلقة دون الهدى . . يواجهها بآيات الله القاطعة المؤثرة ، ويذكّرهم عذابه ، ويصوّر لهم ثوابه ، ويقرر لهم سُننه ، ويعرفهم بنواميسه في هذا الوجود .

وقد سميت " سورة الجاثية " بقوله تعالى : { وترى كل أمة جاثية ، كل أمة تُدعى إلى كتابها } .

افتتحت السورة بذكر القرآن الكريم وأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم ، ثم عرضت أدلة كونية وعقلية لإثبات عقيدة الإيمان والدعوة إلى اعتناقه ، ثم أخذت تعدّد نِعم الله وفضلَه على عباده ، وطلبت من المؤمنين أن يغفروا للمنكرين . . فالله وحده هو الذي يَجزي كل نفس بما كسبت . وقد تحدثت عن بني إسرائيل ، وما تفضّل الله به عليهم ، فجَحدوا النعمة وعصوا أوامر الله ، كما تحدثت عن انقسام الناس أمام هداية الله إلى فريقين : مسلمين ومجرمين . وإذا كان المؤمن يعبد الله ، فإن الكافر إنما يعبد هواه . وشتّان بين الاثنين ! كذلك وتحدّثت السورة عن الدهريّين والطبيعيّين الذين أنكروا وجود الخالق والبعث والجزاء والحياة بعد الموت .

ويسير سياق السورة في عرض موضوعاتها في يُسر وهدوء ، والله في خطابه يأخذ القلوب تارة بالشدة ، وتارة باللمس الناعم الرقيق ، وبالبيان الهادئ الرفيق حسب اختلافها وتنوّع حالاتها ومواقفها " وهو العزيز الحكيم " .

حم : حرفان من الحروف الصوتية ابتدأت بهما هذه السورة وقد سبق الكلام عن مثله .

     
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

مكية كلها في قول الحسن وجابر وعكرمة . وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية ، هي " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله " {[1]} [ الجاثية : 14 ] نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ذكره الماوردي . وقال المهدوي والنحاس عن ابن عباس : إنها نزلت في عمر رضي الله عنه ، شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة ، فأراد أن يبطش به ، فأنزل الله عز وجل : " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله " [ الجاثية : 14 ] ثم نسخت بقوله : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " {[2]} [ التوبة : 5 ] . فالسورة كلها مكية على هذا من غير خلاف . وهي سبع وثلاثون آية . وقيل ست .

قوله تعالى : " حم " مبتدأ و " تنزيل " خبره . وقال بعضهم : " حم " اسم السورة .


[1]:لعله عمرو بن مرة المذكور في سند الحديث (انظر ابن ماجه ج 1 ص 139 وسنن أبي داود ج 1 ص 77 طبع مصر).
[2]:في بعض النسخ: "أبي قاسم"
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة

هذه السورة مكية وآياتها سبع وثلاثون . وهي كغيرها من السور المنزلة في مكة لتدعو الناس إلى التحرر من إسار الوثنية وباطل الشرك ، فيوقنوا أن الله وحده الخالق المعبود وأن ما دونه من الأنداد ضلال وعمه وباطل .

وفي السورة تركيز على سوق الأدلة والحجج من الطبيعة والحياة مما يجده المشركون ويعاينونه ليستيقنوا بأن الله حق وأنه الخالق الموجد .

ويبين الله في السورة شطرا من قصة بني إسرائيل ، إذ آتاهم الله التوراة والنبوة وفضلهم على العالمين في زمانهم .

وفي السورة تنديد من الله بمن اتبع هواه في كل أموره فلم يعبأ بما يقتضيه دين الله وشرعه ، بل يزيغ عن منهج الله وهداه جريا وراء الشهوات وسفاسف الحياة الدنيا وزينتها ، فهو بذلك إنما يعبد هواه . وذلك هو قوله : { أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه } إلى غير ذلك من الأخبار والدلائل والعبر .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ حم 1 تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم 2 إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين 3 وفي خلقكم وما يبث من دآبة آيات لقوم يوقنون 4 واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون } .

{ حم } حروف من حروف التهجي المقطعة في فواتح السور ، التي يعلم الله حقيقة ما يراد بها .