تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ هُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِۦ لَخَبِيرُۢ بَصِيرٞ} (31)

{ 31 - 35 } { وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }

يذكر تعالى أن الكتاب الذي أوحاه إلى رسوله { هُوَ الْحَقُّ } من كثرة ما اشتمل عليه من الحق ، كأن الحق منحصر فيه ، فلا يكن في قلوبكم حرج منه ، ولا تتبرموا منه ، ولا تستهينوا به ، فإذا كان هو الحق ، لزم أن كل ما دل عليه من المسائل الإلهية والغيبية وغيرها ، مطابق لما في الواقع ، فلا يجوز أن يراد به ما يخالف ظاهره وما دل عليه .

{ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب والرسل ، لأنها أخبرت به ، فلما وجد وظهر ، ظهر به صدقها . فهي بشرت به وأخبرت ، وهو صدقها ، ولهذا لا يمكن أحدا أن يؤمن بالكتب السابقة ، وهو كافر بالقرآن أبدا ، لأن كفره به ، ينقض إيمانه بها ، لأن من جملة أخبارها الخبر عن القرآن ، ولأن أخبارها مطابقة لأخبار القرآن .

{ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } فيعطي كل أمة وكل شخص ، ما هو اللائق بحاله . ومن ذلك ، أن الشرائع السابقة لا تليق إلا بوقتها وزمانها ، ولهذا ، ما زال اللّه يرسل الرسل رسولا بعد رسول ، حتى ختمهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، فجاء بهذا الشرع ، الذي يصلح لمصالح الخلق إلى يوم القيامة ، ويتكفل بما هو الخير في كل وقت .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ هُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِۦ لَخَبِيرُۢ بَصِيرٞ} (31)

ولما كانت ترجمة الآية أن العلماء هم حملة الكتاب ، وبدأ سبحانه بأدنى درجاتهم ، وكان ذلك مما يرغب في الكتاب ، أتبعه ترغيباً هو أعلى منه ، فقال عاطفاً على قوله في تقرير الأصل الثاني الذي هو الرسالة{ إنا أرسلناك بالحق }[ البقرة : 119 ] وأكده دفعاً لتكذيب المكذبين به : { والذي أوحينا } أي بما لنا من العظمة { إليك } وبين قدره بمظهر العظمة وقال مبيناً للوحي : { من الكتاب } أي الجامع لخيري الدارين . ولما كان الكتاب لا يطرقه نوع من أنواع التغير لأنه صفة من لا يتغير قال : { هو الحق } أي الكامل في الثبات ومطابقة الواقع له لا غيره من الكلام ؛ وأكد حقيته بقوله : { مصدقاً لما بين يديه } أي من الكتب الماضية الآتي لها الرسل الداعون إلى الله المؤيدون بالبراهين الساطعة والأدلة القاطعة .

ولما دل سبحانه على أن العلم هو الحقيقة الثابتة ، وما عداه فهو محو وباطل ، ودل على أن التالين لكتابه الذي هو العلم هم العلماء ، وغيرهم وإن كانوا موجودين فهم بالمعدومين أشبه ، ودل على أن الكتب الماضية وإن كانت حقاً لكنها ليست في كمال القرآن ، لأن الأمر ما دام لم يختم فالزيادة متوقعة فيه بخلاف ما إذا وقع الختم فإنه لا يكون بعده زيادة ترتقب ، وكان ربما تراءى لأحد في بعض المتصفين بذلك غير ذلك ، قال تعالى إعلاماً بأن العبرة بما عنده لا بما يظهر للعباد ، وأكده تنبيهاً على أن هذا المعنى مما تعقد عليه الخناصر وإن تراءى لأكثر الناس خلافه ، أظهر الاسم الأعظم لحاجة المخبرين هنا إليه لأنهم البر والفاجر : { إن الله } أي الذي له جميع صفات الكمال . ولما كان الإنسان أعلم بمن يربيه ولا سيما إن كان مالكاً له قال : { بعباده لخبير } أي عالم أدق العلم وأتقنه ببواطن أحوالهم { بصير * } أي بظواهر أمورهم وبواطنها أي فهو يسكن الخشية والعلم القلوب على ما أوتوا من الكتاب في علمه وتلاوته وإن تراءى لهم خلاف ذلك ، فأنت أحقهم بالكمال لأنك أخشاهم وأتقاهم ، فلذلك آتيناك هذا الكتاب ، فأخشاهم بعدك أحقهم بعلمه .