تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَهُمۡ يَصۡطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ أَوَلَمۡ نُعَمِّرۡكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُۖ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} (37)

أي : يصرخون ويتصايحون ويستغيثون ويقولون : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } فاعترفوا بذنبهم ، وعرفوا أن اللّه عدل فيهم ، ولكن سألوا الرجعة في غير وقتها ، فيقال لهم : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا } أي : دهرا وعمرا { يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } أي : يتمكن فيه من أراد التذكر من العمل ، متعناكم في الدنيا ، وأدررنا عليكم الأرزاق ، وقيضنا لكم أسباب الراحة ، ومددنا{[746]}  لكم في العمر ، وتابعنا عليكم الآيات ، وأوصلنا إليكم النذر ، وابتليناكم بالسراء والضراء ، لتنيبوا إلينا وترجعوا إلينا ، فلم ينجع فيكم إنذار ، ولم تفد فيكم موعظة ، وأخرنا عنكم العقوبة ، حتى إذا انقضت آجالكم ، وتمت أعماركم ، ورحلتم عن دار الإمكان ، بأشر الحالات ، ووصلتم إلى هذه الدار دار الجزاء على الأعمال ، سألتم الرجعة ؟ هيهات هيهات ، فات وقت الإمكان ، وغضب عليكم الرحيم الرحمن ، واشتد عليكم عذاب النار ، ونسيكم أهل الجنة ، فامكثوا فيها خالدين مخلدين ، وفي العذاب مهانين ، ولهذا قال : { فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } ينصرهم فيخرجهم منها ، أو يخفف عنهم من عذابها .


[746]:- كذا في: ب، وفي أ: مدينا.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَهُمۡ يَصۡطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ أَوَلَمۡ نُعَمِّرۡكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُۖ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} (37)

ولما بيّن عذابهم بين اكتئابهم فقال : { وهم } أي فعل ذلك بهم والحال أنهم { يصطرخون فيها } أي يوجدون الصراخ فيها بغاية ما يقدرون عليه من الجهد في الصياح بالبكاء والنواح . ولما بيّن ذلك بيّن قولهم في اصطراخهم بقوله : { ربنا } أي يقولون : أيها المحسن إلينا { أخرجنا } أي من النار { نعمل صالحاً } ثم أكدوه وفسروه وبينوه بقولهم على سبيل التحسر والاعتراف بالخطأ أو لأنهم كانوا يظنون عملهم صالحاً { غير الذي كنا } أي بغاية جهدنا { نعمل } فتركوا الترقق والعمل على حسبه في وقت نفعه واستعملوه عند فواته فلم ينفعهم ، بل قيل في جوابهم تقريراً لهم وتوبيخاً وتقريعاً : { أو لم } أي ألم تكونوا في دار العمل متمكنين من ذلك بالعقول والقوى ؟ أو لم { نعمركم } أي نطل أعماركم مع إعطائنا لكم العقول ولم نعاجلكم بالأخذ { ما } أي زماناً { يتذكر فيه } وما يشمل كل عمر يتمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه غير أن التوبيخ في الطويل أعظم ، وأشار بمظهر العظمة إلى أنه لا مطمع بغيره سبحانه في مد العمر .

ولما كان التفكر بعد البعث غير نافع لأنه بعد كشف الغطاء ، عبر بالماضي فقال : { من تذكر } إعلاماً بأنه قد ختم على ديوان المتذكرين ، فلا يزاد فيهم أحد ، والزمان المشار إليه قيل : إنه ستون سنة - قاله ابن عباس رضي الله عنهم ، وبوّب له البخاري في أوائل الرقاق من غير عزو إلى أحد ، وروى أحمد بن منيع عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من عمره الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر " وروى الترمذي وابن ماجه وأبو يعلى عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين . وأقلهم من يجوز ذلك " .

ولما أشار إلى دليل العقل ابتداء ودواماً ، أشار إلى أدلة النقل المنبه على ما قصر عنه العقل ، فقال معبراً بالماضي تصريحاً بالمقصود عطفاً على معنى : أو لم نعمركم الذي هو قد عمرناكم : { وجاءكم النذير } أي عنى من الرسل والكتب تأييداً للعقول بالدليل المعقول .

ولما تسبب عن ذلك أن عذابهم لا ينفك قال : { فذقوا } أي ما أعددناه لكم من العذاب دائماً أبداً ، ولما كانت العادة جارية بأن من أيس من خصمه فزع إلى الاستغاثة عليه ، تسبب عن ذلك قوله : { فما } وكان الأصل : لكم ، ولكنه أظهر تعليقاً للحكم بالوصف للتعميم فقال : { للظالمين } أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها { من نصير * } أي يعينهم ويقوي أيديهم ، فلا براح لكم عن هذا الذواق ، وهذا عام في كل ظالم ، فإن من ثبت له نصر عليه لأن ظلمه في كل يوم يضعف ويهن والحق في كل حين يقوى ويضخم .