{ 114 - 118 } { فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
يأمر تعالى عباده بأكل ما رزقهم الله من الحيوانات والحبوب والثمار وغيرها . { حَلَالًا طَيِّبًا } ، أي : حالة كونها متصفة بهذين الوصفين بحيث لا تكون مما حرم الله أو أثرا عن غصب ونحوه . فتمتعوا بما خلق الله لكم من غير إسراف ولا تَعَدٍّ . { وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ } ، بالاعتراف بها بالقلب ، والثناء على الله بها ، وصرفها في طاعة الله . { إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } ، أي : إن كنتم مخلصين له العبادة ، فلا تشكروا إلا إياه ، ولا تنسوا المنعم .
تفريع على الموعظة وضرببِ المثل ، وخوطب به فريق من المسلمين كما دلّ عليه قوله : { إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة } [ سورة النحل : 114 ، 115 ] إلى آخره .
ولعلّ هذا موجّه إلى أهل هجرة الحبشة إذ أصبحوا آمنين عند ملك عادل في بلد يَجدون فيه رزقاً حلالاً وهو ما يُضافون به وما يكتسبونه بكدّهم ، أيْ إذا علمتم حال القرية الممثّل بها أو المعرّض بها فاشكروا الله الذي نجّاكم من مثل ما أصاب القرية ، فاشكروا الله ولا تكفروه كما كفر بنعمته أهل تلك القرية . فقوله : { واشكروا نعمت الله } مقابل قوله في المثل : { فكفرت بأنعم الله } [ سورة النحل : 112 ] إن كنتم لا تعبدون غيره كما هو مقتضى الإيمان .
وتعليق ذلك بالشرط للبعث على الامتثال لإظهار صدق إيمانهم .
وإظهار اسم الجلالة في قوله : { واشكروا نعمت الله } مع أن مقتضى الظاهر الإضمار لزيادة التذكير ، ولتكون جملة هذا الأمر مستقلّة بدلالتها بحيث تصحّ أن تجري مجرى المثل .
وقيل : هذه الآية نزلت بالمدينة ( والمعنى واحد ) وهو قول بعيد .
والأمر في قوله : { فكلوا } للامتنان . وإدخال حرف التفريع عليه باعتبار أن الأمر بالأكل مقدمة للأمر بالشكر وهو المقصود بالتّفريع . والمقصود : فاشكروا نعمة الله ولا تكفروها فيحلّ بكم ما حلّ بأهل القرية المضروبة مثلاً .
والحلال : المأذون فيه شرعاً . والطيّب : ما يطيب للناس طعمه وينفعهم قُوتهُ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فكلوا مما رزقكم الله}، يا معشر المسلمين ما حرمت قريش... للآلهة من الحرث والأنعام، {حلالا طيبا واشكروا نعمت الله}، فيما رزقكم من تحليل الحرث والأنعام، {إن كنتم إياه تعبدون}، ولا تحرموا ما أحل الله لكم من الحرث والأنعام.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فكلوا أيها الناس مما رزقكم الله من بهائم الأنعام التي أحلها لكم حلالاً طيبا مُذَكّاة غير محرّمة عليكم.
{وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ}، يقول: واشكروا الله على نعمه التي أنعم بها عليكم في تحليله ما أحلّ لكم من ذلك، وعلى غير ذلك من نعمه.
{إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ}، يقول: إن كنتم تعبدون الله، فتطيعونه فيما يأمركم وينهاكم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا}، قال بعضهم: الحلال والطيب واحد، وهو الحلال، كأنه قال: كلوا مما أحل لكم الله، كقوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} (النساء: 3)...
وقال بعضهم: {حلالا طيبا}، أي: حلالا، يطيب لكم تتلذذون به...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم خاطب المؤمنين، فقال "كلوا"، فصيغته وإن كان صيغة الأمر، فالمراد به الإباحة، لأن الأكل غير واجب إلا عند الخوف من تلف النفس، ولا مندوب إليه إلا في بعض الأحوال...
"مما رزقكم الله"، أي: ملككم التصرف فيه على وجه ليس لأحد منعكم منه...
{إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ} وليس المعنى إن كنتم تعبدون غيره، فلا تشكروه، بل المعنى أنه لا يصح لأحد أن يشكره إلا بأن يوجه العبادة إليه تعالى وحده...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... خرج من ذكر الكافرين والميل عليهم إلى أمر المؤمنين بشرع ما فوصل الكلام بالفاء وليست المعاني موصولة، هذا قول، والذي عندي أن الكلام متصل المعنى، أي: وأنتم المؤمنون لستم كهذه القرية، {فكلوا} واشكروا الله على تباين حالكم من حال الكفرة، وهذه الآية هي بسبب أن الكفار كانوا سنوا في الأنعام سنناً وحرموا بعضاً وأحلوا بعضاً، فأمر الله تعالى المؤمنين بأكل جميع الأنعام التي رزقها الله عباده. وقوله: {حلالاً}، حال، وقوله: {طيباً}، أي: مستلذاً، ووقع النص في هذا على المستلذات، ففيه ظهور النعمة، وهو عظم النعم وإن كان الحلال قد يكون غير مستلذ، ويحتمل أن يكون الطيب بمعنى الحلال، وكرره مبالغة وتوكيداً، وباقي الآية بين، قوله: {إن كنتم إياه تعبدون}، إقامة للنفوس، كما تقول لرجل: إن كنت من الرجال فافعل كذا، على معنى إقامة نفسه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تقرر بما مضى من أدلة التوحيد، فثبت ثباتاً لا يتطرق إليه شك أن الله هو الإله وحده كما أنه هو الرازق وحده، ونبههم على دقائق في تقديره للأرزاق تدل على عظمته وشمول علمه وقدرته واختياره، فثبت أنهم ظالمون فيما جعلوا للأصنام من رزقه، وأنه ليس لأحد أن يتحرك إلا بأمره سبحانه، وختم ذلك بهذا المثل المحذر من كفران النعم، عقبه بقوله تعالى صاداً لهم عن أفعال الجاهلية: {فكلوا}، أي: فتسبب عن جميع ما مضى أن يقال لهم: كلوا {مما رزقكم الله}، أي: الذي له الجلال والجمال مما عده لكم في هذه السورة وغيرها، حال كونه {حلالاً طيباً}، أي: لا شبهة فيه ولا مانع بوجه، {واشكروا نعمت الله}، أي: الذي له صفات الكمال حذراً من أن يحل بكم ما أحل بالقرية الممثل بها، {إن كنتم إياه}، أي: وحده، {تعبدون}، كما اقتضته هذه الأدلة؛ لأنه وحده هو الذي يرزقكم وإلا عاجلكم بالعقوبة؛ لأنه ليس بعد العناد عن البيان إلا الانتقام، فصار الكلام في الرزق والتقريع على عدم الشكر مكتنفاً الأمثال قبل وبعد...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يأمر تعالى عباده بأكل ما رزقهم الله من الحيوانات والحبوب والثمار وغيرها. {حَلَالًا طَيِّبًا}، أي: حالة كونها متصفة بهذين الوصفين بحيث لا تكون مما حرم الله أو أثرا عن غصب ونحوه. فتمتعوا بما خلق الله لكم من غير إسراف ولا تَعَدٍّ. {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ}، بالاعتراف بها بالقلب، والثناء على الله بها، وصرفها في طاعة الله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والأمر في قوله: {فكلوا} للامتنان. وإدخال حرف التفريع عليه باعتبار أن الأمر بالأكل مقدمة للأمر بالشكر وهو المقصود بالتّفريع. والمقصود: فاشكروا نعمة الله ولا تكفروها فيحلّ بكم ما حلّ بأهل القرية المضروبة مثلاً. والحلال: المأذون فيه شرعاً. والطيّب: ما يطيب للناس طعمه وينفعهم قُوتهُ...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ثم وجه كتاب الله دعوة كريمة إلى الناس كافة –ولا سيما المؤمنين- فقد دعاهم جميعا إلى الإقبال على مائدة الله التي أنزلها لهم للتمتع بها، والتناول منها، كما دعاهم إلى الاستزادة من خيراتها بالشكر عليها، وذلك رحمة بهم، لإقامة أودهم، واستمرار النوع الإنساني المستخلف في الأرض، وحفظه من الهلاك والبوار، وهذه المائدة الإلهية التي دعاهم إليها كتاب الله تنحصر أنواعها في {الحلال الطيب}، ففي أنواع الحلال ما يكفيهم عن كل حرام، وفي أنواع الطيبات ما يغنيهم عن كل خبيث، وذلك قوله تعالى: {فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا، واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون}...
ذلك لأنهم كانوا قبل ذلك لا يتورعون عن أكل ما حرم الله، ولا عن أكل الخبيث، فأراد أن ينبههم أن رزق الله لهم من الحلال الطيب الهنيء، فيبدلهم الحلال بدل الحرام، والطيب بدل الخبيث. وقوله تعالى: {واشكروا نعمة الله} وهنا إشارة تحذير لهم أن يقعوا فيما وقعوا فيه من قبل من جحود النعمة ونكرانها والكفر بها، فقد جربوا عاقبة ذلك، فنزع الله منهم الأمن، وألبسهم لباس الخوف، ونزع منهم الشبع ورغد العيش، وألبسهم لباس الجوع، فخذوا إذن عبرة مما سلف: {إن كنتم إياه تعبدون}...