{ أم للإنسان ما تمنى } ، وقف على جهة التوبيخ والإنكار لحالهم ورأيهم ، ثم اعترض بعد قوله : { وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } جملة في موضع الحال ، والهدى المشار إليه ، ومحمد وشرعه .
وقرأ ابن مسعود وابن عباس : «ولقد جاءكم من ربكم » بالكاف فيهما ، وقال الضحاك إنهما قرآ «ولقد جاءك من ربك » .
و «الإنسان » في قوله : { أم للإنسان } ، اسم الجنس ، كأنه يقول ليست الأشياء بالتمني والشهوات ، إنما الأمر كله لله والأعمال جارية على قانون أمره ونهيه فليس لكم ، أيها الكفرة مرادكم في قولكم هذه آلهتنا وهي تنفعنا وتقربنا زلفى ونحو هذا . وقال ابن زيد والطبري : «الإنسان » هنا : محمد ، بمعنى أنه لم ينل كرامتنا بتأميل ، بل بفضل الله أو بمعنى بل إنه تمنى كرامتنا فنالها ، إذ الكل لله يهب ما شاء ، وهذا لا تقتضيه الآيات ، وإن كان اللفظ يعمه .
إضراب انتقالي ناشىء عن قوله : { وما تهوى الأنفس } [ النجم : 23 ] .
والاستفهام المقدّر بعد { أم } إنكاريّ قصد به إبطال نوال الإِنسان ما يتمناه وأن يجعل ما يتمناه باعثاً عن أعماله ومعتقداته بل عليه أن يتطلب الحق من دلائله وعلاماته وإن خالف ما يتمناه . وهذا متصل بقوله : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } [ النجم : 23 ] .
وهذا تأديب وترويض للنفوس على تحمل ما يخالف أهواءها إذا كان الحق مخالفاً للهوى وليحمل نفسه عليه حتى تتخلق به .
وتعريف { الإنسان } تعريف الجنس ووقوعه في حيّز الإِنكار المساوي للنفي جَعلَه عاماً في كل إنسان .
والموصول في { ما تمنى } بمنزلة المعرّف بلام الجنس فوقوعه في حيّز الاستفهام الإِنكاري الذي بمنزلة النفي يقتضي العموم ، أي ما للإِنسان شيء مما تمنّى ، أي ليس شيء جارياً على إرادته بل على إرادة الله وقد شمل ذلك كل هوى دعاهم إلى الإعراض عن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فشمل تمنيهم شفاعة الأصنام وهو الأهم من أحوال الأصنام عندهم وذلك ما يؤذن به قوله بعد هذا { وكم من ملك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئاً } [ النجم : 26 ] الآية . وتمنيَهم أن يكون الرسول ملَكاً وغير ذلك نحو قولهم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] ، وقولهم : { ائت بقرآن غير هذا أو بدله } [ يونس : 15 ] .
وفُرع على الإِنكار أن الله مالك الآخرة والأولى ، أي فهو يتصرف في أحوال أهلهما بحسب إرادته لا بحسب تمني الإِنسان . وهذا إبطال لمعتقدات المشركين التي منها يقينهم بشفاعة أصنامهم .
وتقديم المجرور في { للإنسان ما تمنى } ، لأن محط الإِنكار هو أمنيتهم أن تجري الأمور على حسب أهوائهم فلذلك كانوا يُعرضون عن كل ما يخالف أهواءهم . فتقديم المعمول هنا لإِفادة القصر وهو قصر قلب ، أي ليس ذلك مقصوراً عليهم كما هو مقتضى حالهم فنزلوا منزلة من يرون الأمور تجري على ما يتمنّون ، أي بل أماني الإِنسان بيد الله يعطي بعضها ويمنع بعضها كما دل عليه التفريع عقبه بقوله : { فللَّه الآخرة والأولى } .
وهذا من معاني الحكمة لأن رغبة الإِنسان في أن يكون ما يتمناه حاصلاً رغبة لو تبصّر فيها صاحبها لوجد تحقيقها متعذراً لأن ما يتمناه أحد يتمناه غيره فتتعارض الأماني فإذا أُعطي لأحد ما يتمنّاه حُرم من يتمنَّى ذلك معه فيفضي ذلك إلى تعطيل الأمنيتين بالأخارة ، والقانون الذي أقام الله عليه نظام هذا الكون أن الحظوظ مقسمة ، ولكل أحد نصيب ، ومن حق العاقل أن يتخلق على الرضى بذلك وإلا كان الناس في عيشة مريرة . وفي الحديث « لا تَسْأَللِ المرأةُ طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتقعُد فإن لها ما كُتب لها » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أم للإنسان ما تمنى} بأن الملائكة تشفع لهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أم اشتهى محمد صلى الله عليه وسلم ما أعطاه الله من هذه الكرامة التي كرّمه بها من النبوة والرسالة، وأنزل الوحي عليه، وتمنى ذلك، فأعطاه إياه ربه، فلله ما في الدار الآخرة والأولى، وهي الدنيا، يعطي من شاء من خلقه ما شاء، ويحرم من شاء منهم ما شاء... قال ابن زيد، في قوله:"أمْ للإنْسانِ ما تَمَنّى "قال: وإن كان محمد تمنى هذا، فذلك له.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أم للإنسان ما تَمنّى}... ثم يحتمل تمنّيهم شفاعة ما عبدوا أو ما اختاروا من البنين لأنفسهم والبنات لله تعالى أو ما سمّوا، واتخذوا الأصنام آلهة، وما ظنوا على الله، وادّعوا أمره ورضاه في فعلهم وغير ذلك مما كانوا يتمنّون. يقول: ليس للإنسان ما تمنى أن يكون له؛ إنما يكون ذلك له بجعل اللَّه الذي له الدنيا والآخرة، وذلك قوله -تعالى -:"فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى".
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(أم للإنسان ما تمنى)... أللإنسان ما تمنى؟! من غير جزاء. لا: ليس الامر كذلك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{أَمْ للإِنسَانِ مَا تَمَنَّى}. أي ليس للإِنسان ما يتمنَّاه؛ فإنَّه يتمنى طولَ الحياةِ والرفاهيةَ وخِصْبَ العَيْشِ... وما لا نهاية له، ولكنَّ أحداً لا يبلغ ذلك بتمامه. ويقال: ما يتمنَّاه الإنسانُ أنْ يرتفعَ مرادُه واجباً في كل شيء -وأَن يَرتْفعَ مرادُ عَبْدٍ واجباً في كل شيءٍ ليس من صفات الخَلْقِ بل هو الله، الذي له ما يشاء...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
معناه: اللأنسان ما تمنى؟ أي: ليس له ما تمنى. واعلم أن الأمنية مذمومة، والإرادة محمودة، والفرق بينهما أن الأمنية شهوة لا يصدقها العمل، والإرادة هو ما يصدقه العمل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَمْ للإنسان مَا تمنى} هي أم المنقطعة، ومعنى الهمزة فيها الإنكار، أي: ليس للإنسان ما تمنى، والمراد طمعهم في شفاعة الآلهة، وهو تمنّ على الله في غاية البعد، وقيل: هو قولهم: {وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50] وقيل: هو قول الوليد بن المغيرة «لأوتين مالاً وولدا» وقيل هو تمنى بعضهم أن يكون هو النبي صلى الله عليه وسلم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{أم للإنسان ما تمنى}، وقف على جهة التوبيخ والإنكار لحالهم ورأيهم، ثم اعترض بعد قوله: {وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} جملة في موضع الحال، والهدى المشار إليه، ومحمد وشرعه.و «الإنسان» في قوله: {أم للإنسان}، اسم الجنس، كأنه يقول ليست الأشياء بالتمني والشهوات، إنما الأمر كله لله والأعمال جارية على قانون أمره ونهيه فليس لكم، أيها الكفرة مرادكم في قولكم هذه آلهتنا وهي تنفعنا وتقربنا زلفى ونحو هذا. وقال ابن زيد والطبري: «الإنسان» هنا: محمد، بمعنى أنه لم ينل كرامتنا بتأميل، بل بفضل الله أو بمعنى بل إنه تمنى كرامتنا فنالها، إذ الكل لله يهب ما شاء، وهذا لا تقتضيه الآيات، وإن كان اللفظ يعمه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فكل ما يتمنى يتحول إلى حقيقة وكل ما يهوى ينقلب إلى واقع! والأمر ليس كذلك. فإن الحق حق والواقع واقع. وهوى النفس ومناها لا يغيران ولا يبدلان في الحقائق. إنما يضل الإنسان بهواه، ويهلك بمناه. وهو أضعف من أن يغير أو يبدل في طبائع الأشياء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاستفهام المقدّر بعد {أم} إنكاريّ قصد به إبطال نوال الإِنسان ما يتمناه وأن يجعل ما يتمناه باعثاً عن أعماله ومعتقداته بل عليه أن يتطلب الحق من دلائله وعلاماته وإن خالف ما يتمناه. وهذا متصل بقوله: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم: 23]. وهذا تأديب وترويض للنفوس على تحمل ما يخالف أهواءها إذا كان الحق مخالفاً للهوى وليحمل نفسه عليه حتى تتخلق به. وتعريف {الإنسان} تعريف الجنس ووقوعه في حيّز الإِنكار المساوي للنفي جَعلَه عاماً في كل إنسان ....
... وتقديم المجرور في {للإنسان ما تمنى}، لأن محط الإِنكار هو أمنيتهم أن تجري الأمور على حسب أهوائهم فلذلك كانوا يُعرضون عن كل ما يخالف أهواءهم. فتقديم المعمول هنا لإِفادة القصر وهو قصر قلب، أي ليس ذلك مقصوراً عليهم كما هو مقتضى حالهم فنزلوا منزلة من يرون الأمور تجري على ما يتمنّون، أي بل أماني الإِنسان بيد الله يعطي بعضها ويمنع بعضها كما دل عليه التفريع عقبه بقوله: {فللَّه الآخرة والأولى}. وهذا من معاني الحكمة لأن رغبة الإِنسان في أن يكون ما يتمناه حاصلاً رغبة لو تبصّر فيها صاحبها لوجد تحقيقها متعذراً لأن ما يتمناه أحد يتمناه غيره فتتعارض الأماني فإذا أُعطي لأحد ما يتمنّاه حُرم من يتمنَّى ذلك معه فيفضي ذلك إلى تعطيل الأمنيتين بالأخارة، والقانون الذي أقام الله عليه نظام هذا الكون أن الحظوظ مقسمة، ولكل أحد نصيب، ومن حق العاقل أن يتخلق على الرضى بذلك وإلا كان الناس في عيشة مريرة...
أيظنون وقد فعلوا من الانصراف عن هدى الله إلى ظنون كاذبة، أيظنون أن الإنسان يسير في الدنيا على هواه؟ وأن له ما تمنى حتى لو كانت أمانيه مخالفة لمنهج ربه؟ الواقع أنه ليس له ذلك، لأن الدين والعقيدة لا تُؤخذ بالأماني، والحق سبحانه ليس على هواك.
والتمنِّي طلب شيء لا يمكن الوصول إليه وغير ممكن الحدوث، والتمني لا يعني إلا أنك تحب هذا الشيء الذي تتمناه، نعم تحبه لكنه لن يحدث...
فهم يتمنونَ ذلك، يتمنون أنْ يكون للإنسان ما يريده وما يحبه دون ضوابط، فهذه أمنية، والأمنية شيء يحبه الإنسان، لكنه لا يتحقق، لأن الإنسان لا يملك الظروف المتعلقة به، ولا يملك الأسباب التي تحقق له كلَّ ما يريد، بل له ربٌّ يُقدِّر الأقدار والأفعال والخير والشر.
وفي آيات متعددة يُبيِّن الحق سبحانه أمنية هؤلاء، فمن أمانيهم قولهم: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ.. } [الزمر: 3] ومن أمانيهم ما حكاه القرآن عن صاحب الجنة في سورة الكهف: { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [الكهف: 36].
وفي موضع آخر قال أحدهم: { وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ.. } [فصلت: 50] وهكذا تمنِّي الإنسان لنفسه لا يقف عند حَدٍّ، قال تعالى: { لاَّ يَسْأَمُ ٱلإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ ٱلْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } [فصلت: 49].
ومن أمانيهم ما حكاه القرآن عن الوليد بن المغيرة: { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } [مريم: 77-78] لا هذا ولا ذاك، لأنه ما اطلع على الغيب، وليس له عند الله عهد بأنْ يعطيه ما يريد.
ثم يردُّ الله عليه: { كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً } [مريم: 79-80].
إذن: ليس للإنسان ما تمنّى، وكيف يكون له ذلك والأمر كله لله وحده في الأولى وفي الآخرة {فَلِلَّهِ ٱلآخِرَةُ وٱلأُولَىٰ} [النجم: 25] هنا أسلوب قصر بتقديم الخبر الجار والمجرور على المبتدأ، أي: لله وحده {ٱلآخِرَةُ وٱلأُولَىٰ} [النجم: 25].
فقدّم الآخرة لأنهم قالوا عن الأصنام: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فأخبر أن الآخرة لله وحده، ولا تنفعكم هذه الشفاعة لأنها باطلة {وٱلأُولَىٰ} [النجم: 25] أي: ما يتمنونه في الدنيا مما لا قدرةَ لهم على تحقيقه.
وقالوا: قدَّم الآخرة على الأولى مع أن الترتيب الأولى والآخرة، لأن الآخرة هي محلّ النزاع بين مُصدِّق بها ومُنكر لها، ومحلّ شك في وقوعها، لذلك قدَّمها على الأولى للتأكيد على أنها حقّ، وحقّ آكد من الأولى التي عاينتموها.