اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَمۡ لِلۡإِنسَٰنِ مَا تَمَنَّىٰ} (24)

قوله : ( إنْ هِيَ ) في ( هي ) وجهان :

أحدهما : أنها ضمير الأصنام أي وما هي إلا أسماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مُسَمياتٌ لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها ، وأشد منافاة لها . وهذا على سبيل المبالغة والتجوز ، كما يقال لتحقير إنسان : ما زيد إلا اسم إذا لم يكن مشتملاً على صفة معتبرة كقوله : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا } .

الثاني : أن يكون ضمير الأسماء وهي اللاَّت والعُزَّى ومَنَاة ، وهم يقصدون بها أسماء الآلهة يعني وما هذه الأسماء إلا سَمَّيْتُمُوها بهواكم وشهْوتكم ليس لكم على صحة تسميتها بُرهانٌ تتعلقون به{[53576]} .

قال أبو البقاء : «أَسْمَاءٌ » يجب أن يكون المعنى ذَوَاتُ أَسْمَاءٍ ، لقوله : «سَمَّيْتُمُوهَا » ؛ لأن الاسم لا يسمى{[53577]} .

فإن قيل : كيف قال : سميتموها أنتم مع أن هذه الأسماء موضوعة قبلنا ؟

فالجواب : أن كل من نطق بهذه الألفاظ فهو كالمُبْتَدِئ الواضع ؛ لأن الواضع الأول لهذه الأسماء لما لم يكن واضعاً بدليل نقلي أو عقلي لم يجب اتباعه ولا يجوز فصار هو كالمبتدئ ؛ إذ لا مُقْتدى لَهُ .

فإن قيل : الأسماء لا تسمَّى وإنما يسمى بها فكيف قال : أسماء سميتموها ؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أن التسمية وضع الاسم فكأنه قال : أسماء وضعتموها ، فاستعمل سَمَّيْتُمُوهَا استعمال وضَعْتُمُوهَا .

الثاني : لو قال : أسماءٌ سمَّيْتُم بها لكان هناك غير الاسم شيء يتعلّق به الباء في قولك بها ؛ لأن قول القائل : سميت به يستدعي دخُولاً آخر ، تقول : سميتُ بزيدٍ ابني أو عبدي أو غير ذلك فيكون قد جعل للأصنام اعتباراً .

فإن قيل : هذا باطل بقوله تعالى : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } [ آل عمران : 36 ] حيث لم يقل : وَإنِّي سَمَّيْتُهَا بِمَرْيَمَ ولم يكن ما ذكرت مقصوداً وإلا لكانت مريم غير ملتفت إليها كما قلت في الأصنام .

فالجواب : بَيْنَهما بونٌ عظيم ؛ لأن هناك قال : سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ فذكر المفعولين فاعتبر حقيقة مريم بقوله : سميتها واسمها بقوله : مريم ، وأما ههنا فقال : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ } موضوعة فلم تعتبر الحقيقة ههنا واعتبرها في مريم{[53578]} .

قوله : { مَا أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } أي حجة بما يقولون : إنها آلهة . واستعملت الباء في قوله ( بِهَا ) كقولك : ارْتَحَلَ فلاَنٌ بأهله ومَتَاعِهِ أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع . كذلك ههنا{[53579]} قوله : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } هذا رجوع إلى الخبر بعد المخاطبة فقال : إن يتَّبعون إلاّ الظَّنَّ في قولهم : إنها آلهة .

قرأها العامة على الغيبة التفاتاً من خطابهم إلى الغيبة عنهم تحقيراً لهم ، كأنه قطع الكلام معهم وقال لنبيِّه : إنهم لا يتبعون إلا الظن فلا يلتفت إلى قولهم .

ويحتمل أن يكون المراد غيرهم ، وفيه وجهان :

الأول : أن يكون المراد آباءهم كأنه تعالى قال : سَمَّيْتُمُوهَا أنتم وآباؤكم فكأنهم قالوا : هذه الأسماء لم نضعها نحن ، وإنَّما تلقيناها من آبائنا فقال : وسمَّاها آباؤكم وما يتبعون إلاَّ الظَّنَّ{[53580]} .

فإن قيل : كان ينبغي أن يكون بصيغة الماضي .

فالجواب : وبصيغة المستقبل أيضاً كأنه يفرض الزمان ( بعد ) {[53581]} زمان الكلام كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } [ الكهف : 18 ] .

الثاني : أن يكون المراد عامة الكفار .

وقرأ عبدُ الله وابنُ عباس وطلحةُ وعيسى بن عُمَر وابنُ وثاب : بالخطاب{[53582]} . وهو حسن موافقٌ .

فإن قيل : كيف ذمهم على اتِّباع الظَّنِّ ونحن مأمورون باتباعه في الفقه ، وقال - عليه الصلاة والسلام - حكاية عن الله تعالى أنه قال : «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي ؟ »

فالجواب : أن الظن خلاف العلم وقد استعمل مجازاً مكان العلم والعلم مكانه وأصل العلم الظهور ومنه العَالِم . وحروف العلم في تَقَالِيبِها فيها معنى الظهور منها لَمَعَ البَرْقُ إذا ظَهَرَ ، ولَمَعَ الغَزَالُ إذا عَدا ، وكذلك عَلِمت .

والظن إذا كان في مقابلة العلم ففيه الخفاء ومنه بئرٌ ظنونٌ لا يدري أفيه{[53583]} ماءٌ أم لا ؛ لخفاء الأمر فيه ودينٌ ظَنُونٌ{[53584]} . يخفى الأمر فيه فنقول : يجوز بناء الأمر على الظن عند العجز عن درك اليقين ، وأما الاعتقاد فليس كذلك ، لأن اليقين لم يتعذّر علينا . وإلى هذا أشار بقوله : { وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى } أي اتبعوا الظن وقد أمكنهم الأخذ باليقين . وفي العمل يمتنع ذلك أيضاً . والله أعلم{[53585]} .

قوله : { وَمَا تَهْوَى الأنفس } نسق على ( الظّن ) و«ما » مصدرية ، أو بمعنى الذي . والمراد بما تهوى الأنفس هو ما زين لهم الشيطان .

قوله : { وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَبِّهِمُ الهدى } يجوز أن يكون حالاً من فاعل ( يَتَّبِعُونَ ) أي يَتَّبَعُون الظنَّ وهوى النفس في حالٍ تُنافي ذلك وهي مجيء الهدى من عند ربهم .

ويجوز أن يكون اعتراضاً فإن قوله : «أمْ للإِنْسَانِ » متصل بقوله : { وَمَا تَهْوَى الأنفس } ، وهي أم المنقطعة ، فتقدر ببل والهَمْزَة على الصَّحِيح{[53586]} .

قال الزمخشري : ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي ليس للإنسان{[53587]} ما تمنى .

فصل

المعنى ولقد جاءهم من ربهم البيان بالكتاب والرسول أنها ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلاَّ للَّهِ الواحد القهار .

{ أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنّى } أيظن أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام . ويحتمل أن يكون معناه : هل للإنسان أن يعبد بالتمني والاشتهاء ما تهوى نَفْسُهُ .


[53576]:بالمعنى من الكشاف له 4/31.
[53577]:التبيان 1188.
[53578]:وانظر تفسير الإمام 28/299 و300.
[53579]:المرجع السابق.
[53580]:ذكر هذه التحليلات والتوجيهات الإمام فخر الدين في مرجعه السابق أيضا.
[53581]:زيادة من الرازي وساقطة من النسختين.
[53582]:هذه القراءات شاذة غير متواترة ذكرها أبو حيان في البحر 8/162 و163 والزمخشري في الكشاف دون نسبة 4/31 والقرطبي في الجامع 17/103 و104 ونسبها لأيوب وابن السميقع أيضا 17/103 و104.
[53583]:كذا في النسختين وفي الرازي: أفيها بتأنيث البئر.
[53584]:وانظر اللسان ظنن وكذلك المحكم. اللسان 2764.
[53585]:وانظر الرازي 28/301.
[53586]:بالمعنى من الرازي 28/301 و302.
[53587]:الكشاف 4/31.