( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ )
وإذ قال ربك للملائكة . . متى قال ? ، وأين قال ? وكيف قال ? كل أولئك قد أجبنا عنه في سورة البقرة في الجزء الأول من هذه الظلال . إنه لا سبيل إلى الإجابة ، لأنه ليس لدينا نص يجيب . وليس لنا من سبيل إلى ذلك الغيب إلا بنص ، وكل ما عدا ذلك ضرب في التيه بلا دليل
فأما خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون والنفخ فيه من روح الله فكيف كان ? فهو كذلك ما لا ندري كيفيته ، ولا سبيل إلى تحديد هذه الكيفية بحال من الأحوال .
وقد يقال بالإحالة إلى نصوص القرآن الأخرى في هذه القضية ، وبخاصة قوله : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين . وقوله : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من ماء مهين . أن أصل الإنسان وأصل الحياة كلها من طين هذه الأرض ؛ ومن عناصره الرئيسية التي تتمثل بذاتها في تركيب الإنسان الجسدي وتركيب الأحياء أجمعين . وأن هنالك أطوارا بين الطين والإنسان تشير إليها كلمة " سلالة " . وإلى هنا وتنتهي دلالة النصوص ، فكل زيادة تحمل عليها ضرب من التمحل ليس القرآن في حاجة إليه . وللبحث العلمي أن يمضي في طريقه بوسائله الميسرة له ، ، فيصل إلى ما يصل إليه من فروض ونظريات ، يحقق منها ما يجد إلى تحقيقه سبيلا مضمونة ، ويبدل منها ما لا يثبت على البحث والتمحيص . غير متعارض في أية نتيجة يحققها مع الحقيقة الأولية التي تضمنها القرآن ؛ وهي ابتداء خلق هذه السلالة من عناصر الطين ودخول الماء في تركيبها على وجه اليقين .
فأما كيف ارتقى هذا الطين من طبيعته العنصرية المعروفة إلى أفق الحياة العضوية أولا ، وإلى أفق الحياة الإنسانية أخيرا ? فهنا السر الذي يعجز عن تعليله البشر أجمعون . وما يزال سر الحياة في الخلية الأولى خافيا لا يزعم أحد أنه اهتدى إليه . فأما سر الحياة الإنسانية العليا بما فيها من مدارك وإشراقات وطاقات متميزة على الخلائق الحيوانية جميعا ، تفوقا حاسما فاصلا منذ بدء ظهور الإنسان . فأما هذا السر فما تزال النظريات تخبط حوله ولا تملك الآن أن تنكر تفرد الإنسان بخصائصه منذ نشأته كما أنها لا تملك أن تثبت الصلة المباشرة بينه وبين أي كائن قبله ، مما يزعم بعضها أن الإنسان " تطور " عنه . كما أنها لا تملك نفي الاحتمال الآخر : وهو نشأة الأجناس منفصلة منذ البدء - وإن كان بعضها أرقى من بعض - ثم نشأة هذا الإنسان متفردا منذ البدء أيضا . والقرآن الكريم يفسر لنا ذلك التفرد ، هذا التفسير المجمل الواضح البسيط :
يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكته قبل خلقه له ، وتشريفه إياه بأمره الملائكة بالسجود له . ويذكر تخلف إبليس عدوّه عن السجود له من بين سائر الملائكة ، حَسَدًا وكفرًا ، وعنادًا واستكبارًا ، وافتخارًا بالباطل ، ولهذا قال : { لَمْ أَكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ } كما قال في الآية الأخرى : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] وقوله : {[16155]} { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا } [ الإسراء : 62 ]
وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا ، من حديث شبيب بن بشر ، عن عِكْرمة ، عن ابن عباس قال : لما خلق الله الملائكة قال : إني خالق بشرًا من طين ، فإذا سويته{[16156]} فاسجدوا له . قالوا : لا نفعل . فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق ملائكة فقال لهم مثل ذلك ، [ فقالوا : لا نفعل . فأرسل عليهم نارًا فأحرقتهم . ثم خلق ملائكة أخرى فقال : إني خالق بشرًا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فأبوا ، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم . ثم خلق ملائكة فقال : إني خالق بشرا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له ]{[16157]} قالوا{[16158]} سمعنا وأطعنا ، إلا إبليس كان من الكافرين الأولين{[16159]}
{ إذ } نصب بإضمار فعل تقديره : اذكر إذ قال ربك ، و «البشر » هنا آدم ، وهو مأخوذ من البشرة ، وهي وجه الجلد ، في الأشهر من القول . ومنه قول النبي عليه السلام : «وافقوا البشر » وقيل البشرة ما يلي اللحم ، ومنه قولهم في المثل : إنما يعاتب الأديم ذو البشرة{[7165]} لأن تلك الجهة هي التي تبشر .
وأخبر الله تعالى الملائكة بعجب عندهم ، وذلك أنهم كانوا مخلوقين من نور - فهي مخلوقات لطاف - فأخبرهم : أنه لا يخلق جسماً حياً ذا بشرة وأنه يخلقه { من صلصال } .
قال القاضي أبو محمد : «والبشر » والبشارة أيضاً أصلهما البشرة لأنهما فيها يظهران .
و { إذ } مفعول لفعل ( اذكر ) محذوف . وقد تقدم الكلام في نظائره في سورة البقرة وفي سورة الأعراف .
والبشر مرادف الإنسان ، أي أنّي خالق إنساناً . وقد فهم الملائكة الحقيقة بما ألقَى الله فيهم من العلم ، أو أن الله وصف لهم حقيقة الإنسان بالمعنى الذي عبّر عنه في القرآن بالعبارة الجامعة لذلك المعنى .
وإنما ذُكر للملائكة المادة التي منها خلق البشر ليعلموا أن شرف الموجودات بمزاياها لا بمادة تركيبها كما أومأ إلى ذلك قوله : { فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.