{ وَقَالَ مُوسَى } حين قال فرعون تلك المقالة الشنيعة التي أوجبها له طغيانه ، واستعان فيها بقوته واقتداره ، مستعينًا بربه : { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ } أي : امتنعت بربوبيته التي دبر بها جميع الأمور { مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } أي : يحمله تكبره وعدم إيمانه بيوم الحساب على الشر والفساد ، يدخل فيه فرعون وغيره ، كما تقدم قريبًا في القاعدة ، فمنعه الله تعالى بلطفه من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ، وقيض له من الأسباب ما اندفع به عنه شر فرعون وملئه .
ومن جملة الأسباب ، هذا الرجل المؤمن ، الذي من آل فرعون ، من بيت المملكة ، لا بد أن يكون له كلمة مسموعة ، وخصوصًا إذا كان يظهر موافقتهم ويكتم إيمانه ، فإنهم يراعونه في الغالب ما لا يراعونه لو خالفهم في الظاهر ، كما منع الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب من قريش ، حيث كان أبو طالب كبيرًا عندهم ، موافقًا لهم على دينهم ، ولو كان مسلمًا لم يحصل منه ذلك المنع .
فأما موسى - عليه السلام - فالتجأ إلى الركن الركين والحصن الحصين ، ولاذ بالجناب الذي يحمي اللائذين ، ويجير المستجيرين :
( وقال موسى : إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ) . .
قالها . واطمأن . وسلم أمره إلى المستعلي على كل متكبر ، القاهر لكل متجبر ، القادر على حماية العائذين به من المستكبرين . وأشار إلى وحدانية الله ربه وربهم لم ينسها أو يتركها أمام التهديد والوعيد . كما أشار إلى عدم الإيمان بيوم الحساب . فما يتكبر متكبر وهو يؤمن بيوم الحساب ، وهو يتصور موقفه يومئذ حاسراً خاشعاً خاضعاً ذليلاً ، مجرداً من كل قوة ، ما له من حميم ولا شفيع يطاع .
وقال موسى : { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } أي : لما بلغه قول فرعون : { ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى } قال موسى : استجرتُ بالله وعُذْتُ به من شره وشر أمثاله ؛ ولهذا قال : { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ } أيها المخاطبون ، { مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ } أي : عن الحق ، مجرم ، { لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } ؛
ولهذا جاء في الحديث عن أبي موسى ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال : " اللهم ، إنا نعوذ بك من شرورهم ، وندرأ بك في نحورهم " {[25489]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَىَ إِنّي عُذْتُ بِرَبّي وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ * وَقَالَ رَجُلٌ مّؤْمِنٌ مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّيَ اللّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رّبّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الّذِي يَعِدُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ } .
يقول تعالى ذكره : وقال موسى لفرعون وملئه : إني استجرت أيها القوم بربي وربكم ، من كلّ متكبر عليه ، تكبر عن توحيده ، والإقرار بألوهيته وطاعته ، لا يؤمن بيوم يحاسب الله فيه خلقه ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بما أساء وإنما خصّ موسى صلوات الله وسلامه عليه ، الاستعاذه بالله ممن لا يؤمن بيوم الحساب ، لأن من لم يؤمن بيوم الحساب مصدّقا ، لم يكن للثواب على الإحسان راجيا ، ولا للعقاب على الإساءة ، وقبيح ما يأتي من الأفعال خائفا ، ولذلك كان استجارته من هذا الصنف من الناس خاصة .
{ وقال موسى } أي لقومه لما سمع بكلامه . { إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } صدر الكلام بأن تأكيدا وإشعارا على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله ، وخص اسم الرب لأن المطلوب هو الحفظ والتربية ، وإضافته إليه وإليهم حثا لهم على موافقته لما في تظاهر الأرواح من استجلاب الإجابة ، ولم يسم فرعون وذكر وصفا يعمه وغيره لتعميم الاستعاذة ورعاية الحق والدلالة على الحامل له على القول . وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي { عذت } فيه وفي سورة " الدخان " بالإدغام وعن نافع مثله .
هذا حكاية كلام صدر من موسى في غير حضرة فرعون لا محالة ، لأن موسى لم يكن ممن يضمه ملأ استشارة فرعون حين قال لقومه : { ذروني أقتل موسى } [ غافر : 26 ] ولكن موسى لما بلغه ما قاله فرعون في ملائه قال موسى في قومه : { إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُم } ، ولذلك حكِيَ فعل قوله معطوفاً بالواو لأن ذلك القول لم يقع في محاورة مع مقال فرعون بخلاف الأقوال المحكية في سورة [ الشعراء : 18 31 ] من قوله : { قال ألم نربك فينا وليداً } إلى قوله : { قال فأْتِ به إن كنت من الصادقين } .
وقوله : { عُذتُ بِرَبِّي وَرَبِّكم مِن كُلِّ مُتَكَبِر } خطاب لقومه من بني إسرائيل تطميناً لهم وتسكيناً لإِشفاقهم عليه من بطش فرعون . والمعنى : إني أعددت العدة لدفع بطش فرعون العوذَ بالله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وفي مقدمة هؤلاء المتكبرين فرعون .
ومعنى ذلك : أن موسى علم أنه سيجد مناوين متكبرين يكرهون ما أرسله الله به إليهم ، فدعا ربه وعلم أن الله ضمن له الحفظ وكفاه ضير كل معاند ، وذلك ما حكي في سورة [ طه : 45 ، 46 ] : { قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمَع وأرى } فأخبر موسى قومه بأن ربه حافظٌ له ليثقوا بالله كما كان مقام النبي لاحينَ كان في أول البعثة تحرسه أصحابه في الليل فلما نزل قوله تعالى : { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين } [ الحجر : 94 ، 95 ] الآية أمر أصحابه بأن يتخلوا عن حراسته .
وتأكيد الخبر بحرف ( إنَّ ) متوجه إلى لازم الخبر وهو أن الله ضمن له السلامة وأكد ذلك لتنزيل بعض قومه أو جُلهم منزلة من يتردد في ذلك لِما رأى من إشفاقهم عليه .
والعَوذ : الالتجاء إلى المحل الذي يستعصم به العائذ فيدفع عنه مَن يروم ضره ، يقال : عاذ بالجبل ، وعاذ بالجيش ، وقال تعالى : { فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] .
وعبر عن الجلالة بصفة الرب مضافاً إلى ضمير المتكلم لأن في صفة الرب إيماء إلى توجيه العوذ به لأن العبد يعوذ بمولاه . وزيادة وصفه برب المخاطبين للإِيماء إلى أن عليهم أن لا يجزعوا من مناواة فرعون لهم وأن عليهم أن يعوذوا بالله من كل ما يفظعهم .
وجُعلت صفة { لاَ يُؤمِنُ بِيَوْمِ الحِسَابِ } مغنية عن صفة الكفر أو الإِشراك لأنها تتضمن الإشراك وزيادة ، لأنه إذا اجتمع في المرء التجبر والتكذيب بالجزاء قَلَّت مبالاته بعواقب أعماله فكملت فيه أسباب القسوة والجرأة على الناس .