مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَقَالَ مُوسَىٰٓ إِنِّي عُذۡتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٖ لَّا يُؤۡمِنُ بِيَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ} (27)

واعلم أنه تعالى لما حكى عن فرعون هذا الكلام حكى بعده ما ذكره موسى عليه السلام فحكى عنه أنه قال : { إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : قرأ نافع وأبو بكر وحمزة والكسائي عذت بإدغام الذال في التاء والباقون بالإظهار .

المسألة الثانية : المعنى أنه لم يأت في دفع شره إلا بأن استعاذ بالله ، واعتمد على فضل الله لا جرم صانه الله عن كل بلية وأوصله إلى كل أمنية ، وعلم أن هذه الكلمات التي ذكرها موسى عليه السلام تشتمل على فوائد :

الفائدة الأولى : أن لفظة { إني } تدل على التأكيد فهذا يدل على أن الطريق المؤكد المعتبر في دفع الشرور والآفات عن النفس الاعتماد على الله والتوكل على عصمة الله تعالى .

الفائدة الثانية : أنه قال : { إني عذت بربي وربكم } فكما أن عند القراءة يقول المسلم : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فالله تعالى يصون دينه وإخلاصه عن وساوس شياطين الجن ، فكذلك عند توجه الآفات والمخافات من شياطين الإنس إذا قال المسلم : أعوذ بالله فالله يصونه عن كل الآفات والمخافات .

الفائدة الثالثة : قوله { بربي وربكم } والمعنى كأن العبد يقول إن الله سبحانه هو الذي رباني وإلى درجات الخير رقاني ، ومن الآفات وقاني ، وأعطاني نعما لا حد لها ولا حصر ، فلما كان المولى ليس إلا الله وجب أن لا يرجع العاقل في دفع كل الآفات إلا إلى حفظ الله تعالى .

الفائدة الرابعة : أن قوله { وربكم } فيه بعث لقوم موسى عليه السلام على أن يقتدوا به في الاستعاذة بالله ، والمعنى فيه أن الأرواح الطاهرة القوية إذا تطابقت على همة واحدة قوي ذلك التأثير جدا ، وذلك هو السبب الأصلي في أداء الصلوات في الجماعات .

الفائدة الخامسة : أنه لم يذكر فرعون في هذا الدعاء ، لأنه كان قد سبق له حق تربية على موسى من بعض الوجوه ، فترك التعيين رعاية لذلك الحق .

الفائدة السادسة : أن فرعون وإن كان أظهر ذلك الفعل إلا أنه لا فائدة في الدعاء على فرعون بعينه ، بل الأولى الاستعاذة بالله في دفع كل من كان موصوفا بتلك الصفة ، حتى يدخل فيه كل من كان عدوا سواء كان مظهرا لتلك العداوة أو كان مخفيا لها .

الفائدة السابعة : أن الموجب للإقدام على إيذاء الناس أمران : ( أحدهما ) كون الإنسان متكبرا قاسي القلب ، ( والثاني ) كونه منكرا للبعث والقيامة ، وذلك لأن التكبر القاسي قد يحمله طبعه على إيذاء الناس إلا أنه إذا كان مقرا بالبعث والحساب صار خوفه من الحساب مانعا له من الجري على موجب تكبره ، فإذا لم يحصل عنده الإيمان بالبعث والقيامة كانت الطبيعة داعية له إلى الإيذاء والمانع وهو الخوف من السؤال والحساب زائلا ، وإذا كان الخوف من السؤال والحساب زائلا فلا جرم تحصل القسوة والإيذاء .

الفائدة الثامنة : أن فرعون لما قال : { ذروني أقتل موسى } قال على سبيل الاستهزاء { وليدع ربه } فقال موسى إن الذي ذكرته يا فرعون بطريق الاستهزاء هو الدين المبين والحق المنير ، وأنا أدعو ربي وأطلب منه أن يدفع الشرك عني ، وسترى أن ربي كيف يقهرك ، وكيف يسلطني عليك .

واعلم أن من أحاط عقله بهذه الفوائد علم أنه لا طريق أصلح ولا أصوب في دفع كيد الأعداء وإبطال مكرهم إلا الاستعاذة بالله والرجوع إلى حفظ الله ، والله أعلم .