ومرة أخرى يبلور مضمون الرسالة في حقيقة جديدة :
فهذا هو قوام الرسالة ، وقوام الإنذار . ولماذا ؟
( إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ) . .
فيتم الإبلاغ ويتم الإنذار ، في هذه الكلمات القصار . .
واليوم ليس أليما . إنما هو مؤلم . والأليم - اسم مفعول أصله : مألوم ! - إنما هم المألومون في ذلك اليوم . ولكن التعبير يختار هذه الصيغة هنا ، لتصوير اليوم ذاته بأنه محمل بالألم ، شاعر به ، فما بال من فيه ؟
وقوله : أنْ لا تَعْبُدُوا إلاّ اللّهَ فمن كسر الألف في قوله : إني جعل قوله : أرْسَلْنا عاملاً في «أَنْ » التي في قوله : أنْ لا تَعْبُدُوا إلاّ اللّهَ ويصير المعنى حينئذ : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ، أن لا تعبدوا إلا الله ، وقل لهم إنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ . ومن فتحها ، ردّ «أنْ » في قوله : أنْ لا تَعْبُدُوا عليها ، فيكون المعنى حينئذ : لقد أرسلنا نوحا إلى قومه بأني لكم نذير مبين ، بأن لا تعبدوا إلا الله . ويعني بقوله : بأن لا تعبدوا إلا الله أيها الناسُ ، عبادة الاَلهة والأوثان وإشراكها في عبادته ، وأفردوا الله بالتوحيد وأخلصوا له العبادة ، فإنه لا شريك له في خلقه . وقوله : إنّي أخافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ ألِيم يقول : إني أيها القوْم إن لم تَخُصّوا الله بالعبادة وتفردوه بالتوحيد وتخلعوا ما دونه من الأنداد والأوثان ، أخاف عليكم من الله عذاب يوم مؤلم عقابُه وعذابه لمن عذّب فيه . وجعل الأليم من صفة اليوم وهو من صفة العذاب ، إذ كان العذاب فيه كما قيل : وَجَعَلَ اللّيْلَ سَكَنا وإنما السّكن من صفة ما سكن فيه دون الليل .
جملة { ألا تعبدوا إلاّ الله } مفسرة لجملة { أرسلنا } لأن الإرسال فيه معنى القول دون حروفه ، ويجوز كونها تفسيراً ل { نذير } لما في { نذير } من معنى القول ، كقوله في سورة نوح ( 2 ، 3 ) { قال يا قوم إني لَكمْ نَذير مبين أن اعبدوا الله واتّقوه } وهذا الوجه متعين على قراءة فتح همزة ( أني ) إذا اعتبرت ( أنّ ) تفسيرية . ويجوز جعل ( أنْ ) مخففة من الثقيلة فيكون بدلاً من { أني لكم نذير مبين } على قراءة فتح الهمزة واسمها ضمير شأن محذوفاً ، أي أنّه لا تعبدوا إلاّ الله .
وجملة { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } تعليل ل { نذير } لأن شأن النذارة أن تثقل على النفوس وتخَزُهم فكانت جديرة بالتعليل لدفع حرج ما يلاقونه .
ووصف اليوم بالأليم مجاز عقلي ، وهو أبلغ من أن يوصف العذاب بالأليم ، لأن شدة العذاب لما بلغت الغاية جعل زمانه أليماً ، أي مؤلماً .
وجملة { أخاف عليكم } ونحوها مثل أخشى عليك ، تستعمل للتوقّع في الأمر المظنون أو المقطوع به باعتبار إمكان الانفلات من المقطوع به ، كقول لبيد :
أخشى على أربَد الحتوف ولا *** أخشَى عليه الرياح والمَطرا
فيتعدّى الفعل بنفسه إلى الخوف منه ويتعدى إلى المخوف عليه بحرف ( على ) كما في الآية وبيت لبيد .
و ( العذاب ) هنا نكرة في المعنى ، لأنه أضيف إلى نكرة فكان محتملاً لعذاب الدنيا وعذاب الآخرة . فأما عذاب الدنيا فليس مقطوعاً بنزوله بهم ولكنه مظنون من نوح عليه السلام بناء على ما علمه من عناية الله بإيمان قومه وما أوحي إليه من الحرص في التبليغ ، فعلم أن شأن ذلك أن لا يترك مَن عَصَوْه دون عقوبة . ولذلك قال في كلامه الآتي { إنما يأتيكم به الله إن شاء } [ هود : 33 ] على ما يأتي هنالك . وكان العذاب شاملاً لعذاب الآخرة أيضاً إن بقوا على الكفر ، وهو مقطوع به لأنّ الله يقرن الوعيد بالدعوة ، فلذلك قال نوح عليه السلام في كلامه الآتي { وما أنتم بمعجزين } [ هود : 33 ] ، وقد تبادر إلى أذهان قومه عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث فلذلك قالوا في كلامهم الآتي { فأتنا بما تعدنا إن كنتم من الصادقين } [ هود : 32 ] . ولعلّ في كلام نوح عليه السّلام ما تفيدهم أنه توعدهم بعذاب في الدنيا وهو الطوفان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.