و { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : في اللعنة ، أو في العذاب والمعنيان{[115]} .
{ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } بل عذابهم دائم شديد مستمر { وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي : يمهلون ، لأن وقت الإمهال وهو الدنيا قد مضى ، ولم يبق لهم عذر فيعتذرون .
الخلود البقاء إلى غير نهاية ، ويستعمل بمعنى البقاء مدة طويلة . وإذا وصف به عذاب الكافر أريد به المعنى الأول ، أي : البقاء إلى غير نهاية والظاهر أن الضمير في قوله { فِيهَا } يعود إلى اللعنة لأنها هي المذكورة في الجملة . وقيل إنه يعود إلى النار لأن اللعن إبعاد من الرحمة وإيجاب للعقاب والعقاب يكون في النار . وقوله { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب } أي : أن المقدار الذي استحقوه من العذاب لا يتفاوت بحسب الأوقات شدة وضعفاً ، وإنما هم في عذاب سرمدي أليم ، كما قال - تعالى - { إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ . لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } والزيادة في قوله - تعالى - : { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } حملها بعض العلماء على معنى استمرار العذاب ، فهي إشارة إلى الخلود فيه لا إلى الزيادة في شدته . وقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا } إشارة إلى دوام العذاب وعدم انقطاعه . وقوله : { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ } إشارة إلى كيفية وشدته .
وقوله : { وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ } أي : لا يمهلون ولا يؤخرون من العذاب كما كانوا يمهلون في الدنيا . من الإِنظار بمعنى التأخير والإِمهال . أو من النظر بمعنى الانتظار يقال : نظرته وانتظرته ، أي : أخرته وأمهلته ومنه قوله - تعالى - : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } أو من النظر بمعنى الرؤية ، أي : لا ينظر الله إليهم نظر رحمة ورضا ولطف كما ينظر إلى عباده الصالحين ، لأنهم بكتمانهم للحق ، وكفرهم بالله ، استحقوا ما استحقوا من العذاب المهين . { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } وبذلك تكون الآيات الكريمة قد حذرت الناس بأسلوب تأديبي حكيم من كتمان الحق ، ومن الكفر بالله ، وفتحت أمامهم باب التوبة ليدخلوه بصادق النية ، وصالح العمل ، وتوعدت من يستمر في ضلاله وطغيانه بأقسى أنواع العذاب ، وأغلظ ألوانه .
ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمرّ به الحالُ إلى مماته بأن { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا } أي : في اللعنة التابعة{[3019]} لهم إلى يوم القيامة{[3020]} ثم المصاحبة لهم في نار جهنم التي { لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } فيها ، أي : لا ينقص عَمَّا هم فيه { وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي : لا يغير{[3021]} عنهم ساعة واحدة ، ولا يفتَّر ، بل هو متواصل دائم ، فنعوذ بالله من ذلك .
وقال أبو العالية وقتادة : إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ، ثم تلعنه الملائكة ، ثم يلعنه الناس أجمعون .
فصل : لا خلاف في جواز لعن الكفار ، وقد كان عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وعمن بعده من الأئمة ، يلعنون الكفرة في القنوت وغيره ؛ فأما الكافر المعين ، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم له ، واستدل بعضهم بهذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وقالت طائفة أخرى : بل يجوز لعن الكافر المعين . واختار ذلك الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ، ولكنه احتج بحديث فيه ضعف ، واستدل غيره بقوله ، عليه السلام ، في صحيح البخاري في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده ، فقال رجل : لعنه الله ، ما أكثر ما يؤتى به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " {[3022]} قالوا : فعلَّة المنع من لعنه ؛ بأنه يحب الله ورسوله فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن ، والله أعلم .
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ( 162 )
{ خالدين فيها } ، والضمير عائد على اللعنة ، وقيل على النار وإن كان لم يجر لها ذكر ، لثبوتها في المعنى .
ثم أعلم تعالى برفع وجوه الرفق عنهم لأن العذاب إذا لم يخفف ولم يؤخر فهو النهاية ، و { ينظرون } معناه يؤخرون عن العذاب ، ويحتمل أن يكون من النظر ، نحو قوله تعالى { ولا ينظر إليهم يوم القيامة }( {[5]} ) [ آل عمران : 77 ] ، والأول أظهر ، لأن النظر بالعين إنما يعدى بإلى إلا شاذاً في الشعر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{خالدين فيها}، يعني في اللعنة، واللعنة: النار.
{لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون}: لا يناظر بهم حتى يعذبوا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... المراد بالكلام ما صار إليه الكافر باللعنة من الله ومن ملائكته ومن الناس والذي صار إليه بها نار جهنم. وأجرى الكلام على اللعنة والمراد بها ما صار إليه الكافر...عن أبي العالية:"خَالِدِينَ فِيهَا" يقول: خالدين في جهنم في اللعنة.
"لا يُخَفّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ "فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن دوام العذاب أبدا من غير توقيت ولا تخفيف، كما قال تعالى ذكره: "وَالّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنّمَ لاَ يُقْضَىَ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا" وكما قال: "كُلّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْنَاهُمْ جُلُودا غَيْرَها".
"وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ": ولا هم ينظرون بمعذرة يعتذرون... كقوله: "هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُون".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {ولا هم ينظرون}؛ قيل لا يقالون، ولا يردون إلى ما تمنوا، كقوله: (أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل) [الأعراف: 53]،
وقيل: لا يناظرهم خزان النار بالعذاب...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{لاَ يُخَفَّفُ} لا يرفّه عنهم العذاب...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} فيه تأويلان:
أحدهما: لا يخفف بالتقليل والاستراحة.
والثاني: لا يخفف بالصبر عليه والاحتمال له.
{وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} يحتمل وجهين:
والثاني: لا ينظر الله عز وجل إليهم فيرحمهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{خالدين فِيهَا} في اللعنة. وقيل: في النار إلا أنها أضمرت تفخيماً لشأنها وتهويلاً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أعلم تعالى برفع وجوه الرفق عنهم لأن العذاب إذا لم يخفف ولم يؤخر فهو النهاية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان اللعن دالاً على العذاب صرح به فقال: {لا يخفف عنهم العذاب} لاستعلاء اللعن عليهم وإحاطته بهم.
قال الحرالي: ذكر وصف العذاب بذكر ما لزمهم من اللعنة ليجمع لهم بين العقابين: عقاباً من الوصف وعقاباً من الفعل، كما يكون لمن يقابله نعيم ورضى – انتهى. {ولا هم ينظرون} قال الحرالي: من النظرة وهو التأخير المرتقب نجازه فالمعنى أنهم لا يمهلون من ممهل ما أصلاً كما يمهلون في الدنيا -بل يقع عليهم العذاب حال فراقهم للحياة ثم لا يخفف عنهم. قال الحرالي: ففيه إشعار بطائفة أي من عصاة المؤمنين يؤخر عذابهم، وفي مقابلة علم الجزاء بأحوال أهل الدنيا تصنيفهم بأصناف في اقتراف السوء، فمن داومه داومه العذاب ومن أخره وقتاً ما في دنياه أخر عنه العذاب، ومن تزايد فيه تزايد عذابه، وذلك لكون الدنيا مزرعة الآخرة وأن الجزاء بحسب الوصف {سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم} [الأنعام: 136] انتهى...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله: {لا يخفف عنهم العذاب} أي لأن كفرهم عظيم يصدهم عن خيرات كثيرة بخلاف كفر أهل الكتاب. والإنظار الإمهال، نظره نظرة أمهله، والظاهر أن المراد ولا هم يمهلون في نزول العذاب بهم في الدنيا وهو عذاب القتل إذ لا يقبل منهم إلاّ الإسلام دون الجزية بخلاف أهل الكتاب وهذا كقوله تعالى: {إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون، يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} [الدخان: 15، 16] وهي بطشة يوم بدر...
وساعة يأتي الحق في عذاب الكافرين ويتكلم عن النار عذابا وعن الزمان خلودا ثم يصعّد الخلود بالأبدية، فنحن نعرف بذلك أن هناك عذاباً في النار، وخلوداً فيها، وأبدية. ولأن رحمة الله سبقت غضبه في التقنين العذابي، لم يذكر الخلود في النار أبداً إلا في سورة الجن قال: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} (من الآية 23 سورة الجن). ومادام فيه مقيد، فإن كل مطلق من التأبيد يحمل عليه، وكون الحق لم يأت بكلمة (أبداً) عند ذكر العذاب، فهذا دليل على أن رحمته سبقت غضبه حتى في تقنين العذاب.
أما قوله الحق: {لا يخفّف عنهم العذاب} فهو أن الإنسان عندما يعذب بشيء فإن تكرار العذاب عليه ربما يجعله يألف العذاب، لكن الواقع يقول: إن العذاب يشتد عليه، فالتخفيف لا علاقة له بالزمن،