اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَلَا هُمۡ يُنظَرُونَ} (162)

قوله تعالَى : " خِالِدِينَ " حالٌ من الضَّمير في " عَلَيْهِمْ " والعاملُ فيها الظرْفُ من قوله " عَلَيْهِمْ " ؛ لأنَّ فيه معنى الاسْتقْرَار لِلَّعْنة ، والخلودُ : اللُّزومُ الطَّويل ، ومنْه قوله تعالى : " أَخْلدَهُ " أي : لَزِمَهُ ، ورَكَنَ إلَيْه .

قال بعضُهُمْ : " خَالِدِينَ فِي اللَّعْنَة " .

وقيلَ : في النَّار ، أُضْمِرَتْ ؛ تفخيماً وتهويلاً ؛ كقوله { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] .

والأول أولى ؛ لوجوه{[20]} :

الأول : أَنَّ ردَّ الضَّميرِ [ إلى المَذْكُور السَّابق أَوْلَى مِنْ رَدِّة ، إذَا لم يُذْكَر .

الثاني : أَنَّ حَمْلَ هذا الضَّمِير على اللَّعْنَة ]{[21]} أَكْثَرُ فائدةً ؟ لأنَّ اللَّعْنَ هو الإبْعَادُ مِنَ الثَّوَاب بفِعْل العِقَاب في الآخِرَة ، وإيجادِهِ في الدُّنيا ، فيدخل في اللعن النَّار وزيادةٌ [ فكان حَملُ اللَّفظ عليه أولى ] .

[ الثالث : أن حمل الضمير على اللَّعن يكون حاصلاً في الحال وبعده ، وحمله على النَّار لا يكون حالاً حاصلاً في الحال ، بل لا بدَّ من تأويلٍ ]{[22]} .

قوله تعالى : " يُخَفَّفُ " فيه ثلاثةُ أوجه :

أحدها : أن يكون مستأنفاً .

الثاني : أن يكون حالاً من الضَّمير في " خَالِدِينَ " فيكون حالان متداخلان .

الثالث : أن يكون حالاً ثانية من الضَّمير في " عَلَيْهِمْ " ، وكذلك عند من يجيز تعدُّد الحال . وقد منع أبو البقاء هذا الوجه ، بناءً منه على مذهبه في ذلك .

وقوله : " وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ " .

قال مَكِّيٌّ رحمه الله : هو ابتداءٌ وخبرٌ في موضع الحال من الضَّمير في " خالدين " أو من الضَّمير في " عَنْهُمْ " .

فصل في وصف العذاب

اعلم أنه تعالى وصف هذا العذاب بثلاثة أمورٍ :

أحدها : الخلود ، وهو المكث الطَّويل عِنْدنا ، أو المكث الدَّائم عند المعتزلة .

وثانيها : عدم التخفِيفِ ، ومعناه أنّ العذابَ في الأوقاتِ كلِّها متشابهٌ ؛ لا يكون بعضُه أقَلَّ من بَعْضٍ .

فَإِن قيلّ : هذا التَّشْبيهُ مُمْتَنعٌ ؛ لوجوهٍ :

أحدها : أَنَّه إذا تصوَّر حال غيره من شدَّة العذب ، كان ذلك كالتَّخفيف عنه .

وثانيها : أنَّه تعالى يزيد علَيْهِمْ في أقوات ، ثمَّ تنقطع تلْك الزِّيادةُ فيكونُ ذلك تَخفيفاً .

وثالثها : أنه حين يخاطبهم بقوله تعالى : { اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ }

[ المؤمنون : 108 ] لا نشكُّ أنَّه يزادُ عنْهم في ذلك الوَقْت .

فالجوابُ أَنَّ التفاوتُ في هذه الأمُورِ قليلٌ ، فالمستَغرِقُ في العَذَاب الشّدِيد لا ينْتبه لهذا القدْر القليل منَ التَّفاوتُ ، وهذه الآية تَدُلُّ على دوام العذاب ، وأبديتِه ، فإنَّ الواقعَ في [ محْنَةٍ ] عظيمةٍ [ وشدةٍ ] في الدُّنْيَا ، إذا بُشِّرَ بالخَلاَص ، وقيل له : إنَّك تَخلُصُ من هذه الشِّدَّة بعد أيَّامٍ ، فإنَّه يَفْرَح ويسْهُلُ عليه موقع هذه المحنة .

الصفة الثانية : قوله " وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ " والإنظارُ : هو التأْجيلُ والتأخيرُ ؛ قال سُبحانه { فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] والمعنى : أن عذابَهُمْ لا يُؤجَّل ، بل يكون حاضراً متَّصِلاً بعذاب مثله ؛ ووجه اتِّصال هذه الآية بها قبلها : أنَّه تعالى لمَّا حّذَّر من كتْمَان الحقِّ بين أن أوَّل ما يجبُ إظهارُهُ ولا يجوزُ كتمانُهُ أمْرُ التوحيدِ ، ووَصَل ذلك بذكْر البُرْهان ، وعلَّم طريقَ النَّظَر ، وهو الفكْرُ في عجائِبِ الصُّنْع ؛ ليعلم أنَّه لاَ بُدَّ منْ فاعل لا يشبهُه شَيْءٍ :

ويحتمل أن يكون من النَّظَرِ ؛ كقوله : { لاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ آل عمران : 77 ] .


[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[22]:سقط في ب.