ف { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا } أي : كثيًرا ، بعضه فوق بعض .
وسمى الله تعالى الإنفاق في الشهوات والمعاصي إهلاكًا ، لأنه لا ينتفع المنفق بما أنفق ، ولا يعود عليه من إنفاقه إلا الندم والخسار والتعب والقلة ، لا كمن أنفق في مرضاة الله في سبيل الخير ، فإن هذا قد تاجر مع الله ، وربح أضعاف أضعاف ما أنفق .
ثم حكى - سبحانه - جانبا من أقوال هذا النوع الجاحد المغرور من بنى آدم فقال : { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } أى : يقول هذا الإِنسان المغرور بقوته ، والمفتون بماله ، المتفاخر بما هو معه من حطام الدنيا . يقول - على سبيل التباهى والتعالى على غيره - لقد أنفقت مالا كثيرا ، فى عداوة النبى صلى الله عليه وسلم ، وفى إيذاء أتباعه ، وفى غير ذلك من الوجوه التى كان أهل الجاهلية يظنونها خيرا ، وما هى إلا شر محض . وعبر - سبحانه - عن إنفاق هذا الشقى لما له بقوله : { يَقُولُ أَهْلَكْتُ . . . } للإِشعار ، بأن ما أنفقه من مال هو شئ هالك ، لأنه لم ينفق فى الخير ، وإنما أنفق فى الشر .
والمال اللُّبَد : هو المال الكثير الذى تلبد والتصق بعضه ببعض لكثرته وهو جمع لُبْدة - بضم اللام وسكون الباء - كغرفة وغرف ، وهى ما تلبد من صوف أو شعر ، أى : تجمع والتصق بعضه بعض .
وقوله : يَقُولُ أهْلَكْتُ مالاً لُبَدا يقول هذا الجليد الشديد : أهلكت مالاً كثيرا ، في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فأنفقت ذلك فيه ، وهو كاذب في قوله ذلك وهو فعل من التلبد ، وهو الكثير ، بعضه على بعض ، يقال منه : لَبد بالأرض يَلْبُد : إذا لصق بها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : مالاً لُبَدا يعني باللبد : المال الكثير .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مالاً لُبَدا قال : كثيرا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مسلم ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : أهْلَكْتُ مالاً لُبَدا . قال : مالاً كثيرا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أهْلَكْتُ مالاً لُبَدا : أي كثيرا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مالاً لُبَدا قال : اللبد : الكثير .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : مالاً لُبَدا بتخفيف الباء . وقرأه أبو جعفر بتشديدها . والصواب بتخفيفها ، لإجماع الحجة عليه .
وكان قول هذا الكافر { أهلكت مالا لبدا } كذبا منه فلذلك قال تعالى [ أيحسب أن لم يره أحد ] أي أنه رئي وأحصي فعله فما باله يكذب ومن قال إن المراد اسم الجنس غير معين مفرد جعل قوله تعالى [ أيحسب أن لم يره أحد ] بمعنى : أيظن الإنسان أن ليس عليه حفظة يرون أعماله ويحصونها إلى يوم الجزاء ؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وجسمه فيما أبلاه وماله من أين كسبه وأين أنفقه ){[11830]} .
واختلف القراء في قوله ( لبدا ) فقرأ جمهور القراء بضم اللام وفتح الباء وقرأ مجاهد ( لبدا ) بضمهما وذلك جمع لبدة أو جمع لبود بفتح اللام وقرأ أبو جعفر يزيد : ( لبدا ) بضم اللام وفتح الباء وشدها فيكون مفردا نحو ( رمل ) ويكون جمع " لابد " وقد روي عن أبي جعفر ( لبدا ) بسكون الباء والمعنى في هذه القراءات كلها مالا كثيرا متلبدا بعضه فوق بعض من التكاثف والكثرة
أعقبت مساوي نفسه بمذام أقواله ، وهو التفخر الكاذب والتمدح بإتلاف المال في غير صلاح . وقد كان أهل الجاهلية يتبجحون بإتلاف المال ويعدونه منقبة لإيذانه بقلة اكتراث صاحبه به ، قال عنترة :
وإذَا سَكِرْتُ فإنَّنِي مُسْتَهْلِـــكٌ *** مالي وعِرضي وافرٌ لم يُكْلَمِ
وَإذَا صَحَوْتُ فَما أقَصِّر عن نَدى *** وَكَما عَلِمْتَ شمائلي وتكَرُّمِي
وجملة : { يقول أهلكت مالاً } في موضع الحال من { الإنسان } [ البلد : 4 ] . وذلك من الكبد .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : "يَقُولُ أهْلَكْتُ مالاً لُبَدا" يقول هذا الجليد الشديد : أهلكت مالاً كثيرا ، في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فأنفقت ذلك فيه ، وهو كاذب في قوله ذلك، وهو فعل من التلبد ، وهو الكثير ، بعضه على بعض ، يقال منه : لَبد بالأرض يَلْبُد : إذا لصق بها ... عن ابن عباس : "مالاً لُبَدا" يعني باللبد : المال الكثير .
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وأنه يقول : { أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ، ويدعونها معالي ومفاخر .
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ يقول } أي مفتخراً بقدرته وشدته : { أهلكت مالاً لبدا } ولقصد المبالغة في كثرته جاءت قراءة أبي جعفر بالتشديد على أنه جمع لا بد كركع وراكع فأفهمت أنه بحيث لا يحصى ، بل لو جمع لم تسعه الأرض إلا بأن يكون بعضه على بعض فلا يعد ولا يحد ، أي وذلك قليل من الكثير الذي معي ، قلدت به أعناق الرجال المنن ، واستعبدت به الأحرار في كل زمن ، فصرت بحيث إذا دعوت كثر الملبي ، وإذا ناديت كثر المجيب ، وإذا أمرت عظم الممتثل ، وفاء لصنائعي الماضية ورغبة في نعمي الباقية ، فمن يستعصي عليّ ومن يخالف أمري ، فضلاً عن أن يريد إخمال ذكري أو نقص قدري .
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
أي يقول ذلك وقت الاغترار فخراً ومباهاة وتعظماً على المؤمنين وأراد بذلك ما أنفقه رياء وسمعة وعبر عن الانفاق بالإهلاك إظهاراً لعدم الاكتراث وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفعه فكأنه جعل المال الكثير ضائعاً وقيل يقول ذلك إظهاراً لشدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم مريداً بالمال ما أنفقه في معاداته عليه الصلاة والسلام وقيل يقول ذلك إيذاء له عليه الصلاة والسلام...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.