نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{يَقُولُ أَهۡلَكۡتُ مَالٗا لُّبَدًا} (6)

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما أوضح سبحانه وتعالى حال من تقدم ذكره في السورتين في عظيم حيرتهم وسوء غفلتهم وما أعقبهم ذلك من التذكر تحسراً حين لا ينفع التندم ، ولات حين مطمع ، أتبع ذلك بتعريف نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام بأن وقوع ذلك منهم إنما جرى على حكم السابقة التي شاءها والحكمة التي قدرها كما جاء في الموضع الآخر { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها }[ السجدة : 13 ] فأشار تعالى إلى هذا بقوله { لقد خلقنا الإنسان في كبد } أي أنا خلقناه لذلك ابتلاء ليكون ذلك قاطعاً لمن سبق له الشقاء عن التفكر والاعتبار { وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً }[ الكهف : 57 ] فأعماهم بما خلقهم فيه من الكبد وأغفل قلوبهم فحسبوا أنهم لا يقدر عليهم أحد ، وقد بين سبحانه وتعالى فعله هذا بهم في قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه }[ الكهف : 28 ]

{ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً }[ يونس : 99 ] فأنت تشاهدهم يا محمد ذوي أبصار وآلات يعتبر بها النظار { ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين } فهلا أخذ في خلاص نفسه ، واعتبر بحاله وأمسه ، { فلا اقتحم العقبة } ولكن إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له - انتهى .

ولما كان الإنسان لا يفتخر بالإنفاق إلا إذا أفضى إلى الإملاق ، فعلم أن مراد الإشارة إلى أن معه أضعاف ما أنفق من حيث إنه حقره بلفظ الإهلاك ، إشارة إلى الثانية والثالثة من شهواته النفسية وهما إرادته أن يكون له الفخار والامتنان على جميع الموجودات ، وإرادته أن يكون عنده من الأموال ما لا تحيط به الأفكار ولا تحويه الأقطار - كما يشير إليه حديث " " لو أن لابن آدم واد من ذهب " و " لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب " " علل سبحانه وتعالى جهله في حسابه ذلك وما تبعه بقوله : { يقول } أي مفتخراً بقدرته وشدته : { أهلكت مالاً لبدا * } ولقصد المبالغة في كثرته جاءت قراءة أبي جعفر بالتشديد على أنه جمع لا بد كركع وراكع فأفهمت أنه بحيث لا يحصى ، بل لو جمع لم تسعه الأرض إلا بأن يكون بعضه على بعض فلا يعد ولا يحد ، أي وذلك قليل من الكثير الذي معي ، قلدت به أعناق الرجال المنن ، واستعبدت به الأحرار في كل زمن ، فصرت بحيث إذا دعوت كثر الملبي ، وإذا ناديت كثر المجيب ، وإذا أمرت عظم الممتثل ، وفاء لصنائعي الماضية ورغبة في نعمي الباقية ، فمن يستعصي عليّ ومن يخالف أمري ، فضلاً عن أن يريد إخمال ذكري أو نقص قدري .